ما الفرق الذي أحدثه عِقدان من الزمن؟ في عام 1997 لم يكن إجمالي الناتج المحلي الصيني يتجاوز 11% من نظيره الأميركي. وبحلول 2017، أصبح يصل إلى 63%! ورغم ذلك تنطوي المقارنة على مبالغة في ظل اختلاف مستويات المعيشة بين البلدين، لاسيما أن الأسعار منخفضة في الصين. ومن حيث تكافؤ القوة الشرائية، بات الاقتصاد الصيني هو الأكبر في العالم منذ 2013 تقريباً.
فأي الاقتصادين أكبر بالفعل؟ ربما تكمن الحقيقة في مرحلة ما بين المرحلتين. فلو أن الصين ألغت قيودها على رأس المال، وفتحت عملتها للمنافسة الأجنبية، فثمة فرصة كبيرة لارتفاع قيمة اليوان، ما يجعل إجمالي الناتج المحلي الصيني من حيث أسعار الصرف السوقية قريباً من أرقام «تكافؤ القوة الشرائية». وبعبارة أخرى، هناك تقارب شديد في حجم اقتصاد كل من أميركا والصين حالياً. غير أن اقتصاد الصين، صاحبة تعداد السكان الذي يفوق أربع مرات نظيره الأميركي، لديه فرصة أكبر للنمو، علماً بأن الصين أكبر مصنّع وأكبر مصدّر في العالم.
وفي ضوء ذلك، إذا لم تكن الصين هي القوة الاقتصادية الأكبر في العالم، فإنها على وشك أن تصبح كذلك.
ولعل التأثير الأكبر لذلك هو أن الصين ستصبح مستفيداً رئيساً مما يسميه خبراء الاقتصاد «تأثيرات التكتل». ويشير مصطلح التكتل إلى ميل الشركات إلى التمركز سوياً في المنطقة ذاتها، لأن عمال إحدى الشركات سيكونون عملاء شركة أخرى وهكذا. ومثلما أوضح خبراء الاقتصاد «بول كروجمان» و«ماساهيسا فوجيتا» و«أنطوني فينابلز»، قبل عقدين سابقين، يجلب تكتل الشركات في مكان واحد امتيازات كبيرة لأي منطقة يحدث فيها تمركز مكثف للنشاط الاقتصادي.
وهذا الوصف ينطبق على الصين أكثر من الولايات المتحدة. فالصين لديها أكبر الأسواق، لذلك ترغب الشركات متعددة الجنسيات في بناء مصانعها ومكاتبها هناك، وهو ما يفضي إلى هجرة سلاسل إمداد كاملة إلى الصين.
وتتسارع هذه العملية بسبب ظاهرة «تأثير التجمع»، ويُقصد به تجمع خزان ضخم من المواهب وخبرات التصنيع في المدن الصينية.
ويعني ذلك أيضاً أن الرئيس ترامب سيخوض معركة شرسة في حربه التجارية ضد الصين. ولحمل أية شركة على الخروج من الصين، فلا بد أن تكون الرسوم الجمركية مرتفعة جداً، إذ ينبغي أن تتغلب ليس فقط على الاختلافات في تكاليف العمالة بين البلدين، ولكن أيضاً قوة جذب السوق الصينية، وتمركز خبرات التصنيع ووجود سلاسل إمداد مستقرة. وتؤكد شركات كثيرة أنها مستعدة للانسحاب، لكن الواقع قد يكون مختلفاً، فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة «فورد» الأميركية للسيارات أنها ستصنع الجيل التالي من سياراتها في الصين.
والنتيجة الثانية للثقل الاقتصادي الجديد للصين هو أن شبكة المؤسسات التي أسستها الولايات المتحدة لتنظيم الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية ستصبح غير مؤثرة وغير ملائمة بدرجة كبيرة. فالبنك الدولي، الذي يقرض الأموال للدول الفقيرة، يجد نفسه الآن مهمشاً بينما تتدفق القروض الصينية إلى الدول النامية.
ومن أهم المؤسسات الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة «الدولار الأميركي» ذاته، لاسيما أن الورقة الخضراء ظلت على مدار عقود عملة الاحتياطي العالمي، وتحتفظ دول العالم باحتياطاتها من النقد الأجنبي بالدولار، وهناك كثير من الديون والسلع المقومة بالدولار التي تباع وتشترى أيضاً بالعملة الأميركية. ويعتقد البعض أن ذلك يضع ضغوطاً على الاقتصاد الأميركي؛ لأن الطلب المتزايد على الدولارات يجعل العملة أغلى ثمناً، وهو ما يساهم في استمرار العجز التجاري الأميركي. وإذا صحت هذه النظرية، ستصبح أميركا أقل قدرة على التعامل مع تدفقات رأس المال اللازمة للحفاظ على الدولار كعملة للاحتياطي العالمي. وستبدو فكرة جيدة أن تتحمل الصين جزءاً من عبء عملة الاحتياطي العالمي، مثلما تولت الولايات المتحدة هذا الواجب من المملكة المتحدة قبل قرن مضى. غير أن بكين تصر على الحفاظ على نظام قيودها على رأس المال، وهو ما يصعب تداول عملتها خارج أراضيها.
والتأثير الأخير للنهوض الاقتصادي الصيني سيكون جيوسياسياً، فالدول التي كانت تعتمد على الولايات المتحدة في الشؤون العسكرية والسياسية لتأمين دخولها إلى الأسواق الأميركية، ستميل الآن إلى تحويل ولائها إلى الصين.
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»