التزمت روسيا الحذر في سياستها تجاه أوكرانيا في الأسبوعين الأخيرين. لم ترد على التصعيد الذي كان طبيعياً أن تلجأ إليه كييف، بعد أن احتجزت البحرية الروسية في 25 نوفمبر الماضي ثلاث سفن حربية أوكرانية خلال محاولتها التسلل من البحر الأسود إلى بحر آزوف، وأسرت 24 بحاراً كانوا على متنها.
وإذا صح أن روسيا تتجه إلى التهدئة بالفعل، وفق ما يمكن استنتاجه من سلوكها الراهن، فربما تكون رسالة الرئيس ترامب إلى نظيره بوتين قد وصلت.
اتخذ ترامب موقفاً قوياً تجاه التصرف الروسي، الذي رفع منسوب الأزمة مع كييف إلى أعلى مستوياته منذ أن ضمت موسكو شبه جزيرة القرم عام 2014، وبدأ النزاع المسلح في شرق أوكرانيا بين القوات التابعة لحكومتها والانفصاليين الموالين لروسيا. فقد هدد ترامب بإلغاء اللقاء الذي كان مقرراً له مع بوتين في بوينس إيرس، على هامش قمة مجموعة العشرين في اليوم الأخير من الشهر الماضي، ما لم تراجع روسيا موقفها وتفرج عن السفن الأوكرانية والبحارة الذين كانوا على متنها. وعندما لم تتفاعل موسكو مع هذا المطلب، قرر ترامب إلغاء ذلك اللقاء بالفعل.
وتفيد المعطيات المتوافرة عن موقف موسكو في الفترة التالية لإلغاء اللقاء أنها تتجه إلى تهدئة الأزمة، ربما في انتظار نتائج اتصالات اتفق بوتين خلال قمة العشرين مع المستشارة الألمانية إنجيلا ميركيل على عقدها بمشاركة فرنسية من أجل حل الأزمة مع كييف.
ويظهر هذا الاتجاه الروسي في عدم الرد على معظم الخطوات التصعيدية التي اتخذتها أوكرانيا، بدءاً بإعلان حال الطوارئ تحت شعار أن شبح الحرب يُخيم على البلاد. ويبدو أن موسكو اتجهت، أيضاً، إلى ضبط سلوك أنصارها في شرق أوكرانيا، لكي لا يؤدي إعلان حال الطوارئ إلى إشعال الموقف في المناطق التي ينشطون فيها.
كما جاء رد موسكو رمزياً على استدعاء الحكومة الأوكرانية قوات الاحتياط لمواجهة التهديدات الروسية، وإرسال قواتها الجوية من قاعدة أوزيرن شمال البلاد إلى شرقها، حيث يوجد الانفصاليون الموالون لروسيا، وإعلان الرئيس بيترو بورو شينكو توجيه وحدات إنزال جوي تابعة للقوات المسلحة من المطار العسكري في منطقة جيتومير إلى ما أسماه «وجهات ومناطق مهمة وفقاً للخطة المعتمدة». فقد اكتفت بإجراء تدريبات بحرية رمزية في البحر الأسود شاركت فيها غواصتان اثنتان فقط بهدف رصد أهداف في هذا البحر. ولكنها قررت رفع الحصار جزئياً عن الميناءين الأوكرانيين بيرديانسك وماريوبول المطلين على بحر آزوف.
ويبدو أن موسكو تهدف إلى تهدئة الأزمة، تمهيداً لإيجاد حل لها يشمل الإفراج عن السفن المحتجزة وبحاريها، مقابل صيغة تتيح عدم تجدد التوتر الناتج عن الخلاف الأساسي حول التكييف القانوني لمنطقة مضيق كيرتش في ظل ضم روسيا شبه جزيرة القرم، إذ تصر موسكو على أن هذه المنطقة أصبحت ضمن مياهها الإقليمية، بينما تصمم كييف على أنها مياه دولية لأن الأمم المتحدة لم تعترف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم.
لكن أهم ما في هذه الأزمة هو آثارها المحتملة على محاولة ترامب تحسين العلاقات مع روسيا، والمقاومة التي تواجهه من جانب معظم مؤسسات صنع السياسة الخارجية الأميركية. والملاحظ أن هذه المرة الأولى التي تبنى فيها ترامب موقف هذه المؤسسات، ولم يحاول المحافظة على مسافة منها بخلاف ما فعله مرات من قبل بشأن الخلافات مع روسيا.
فقد ظل الرئيس الأميركي حريصاً منذ بداية ولايته على إبداء مرونة، في الوقت الذي تتخذ المؤسسات الأميركية مواقف متشددة ضد موسكو. وراهن على أن نجاحه في استثمار العلاقة الشخصية الإيجابية مع بوتين لتحسين الأجواء بين الدولتين يُقدم نموذجاً في إدارة السياسة الأميركية.
ويحتاج ترامب إلى ترسيخ هذا النموذج في قضايا أخرى مثل الأزمة اليمنية التي يحرص على أن يكون للولايات المتحدة دور لوجستي فيها مساند للشرعية والتحالف العربي، حتى إذا رفض الكونجرس الجديد ذلك أو اتخذ موقفاً مختلفاً.
ويبدو أن بوتين التقط الرسالة المتضمنة في إلغاء ترامب اللقاء معه، وبدأ في تهدئة الموقف. لكن التوصل إلى حل ينزع فتيل الأزمة الأوكرانية يتطلب وقتاً سيكون على بوتين أن يضبط خلاله مواقف أركان حكومته المتشددين في اتجاهاتهم إزاءها.