قدمنا في الأسابيع المنصرمة مقالات أوّلية حول بعض الحضارات في العالم العربي، من دون أن نضعها مقابل الحضارة الغربية. ونعلم أن الحديث عن الحضارة في العالم الغربي عموماً جاء ليقوم بوظيفتين اثنتين؛ معرفية وأيديولوجية.
لقد بدأت الأيديولوجيات الغربية تجتاح العالم في القرن التاسع عشر، لتجد نفسها أمام وظيفة تسويغ ظاهرة الاستعمار الغربي، والذي سيجتاح مناطق متعددةً منها الشرق العربي.
في تلك الحالة أصبحت السلطةٍ الاستعمارية تُحكم قبضتها على العالم العربي الضعيف الهزيل، بحيث إن إنهاء العملية في عمومها كان يشي بالاقتراب من النهاية، وبتدشين عالمٍ عربي يمثل جسداً تمكّن منه الغزاة الاستعماريون.
نضع مقابل ذلك ما أنتجته حركات مقاومة في منطقةٍ أو أخرى من العالم العربي. وملفتٌ هنا ما تم إنتاجه في سياق ذلك كلّه من حركاتٍ أو جيوبٍ أخرى من الحركاتِ المضادة للمقاومة.
إن ذلك كلّه مجتمعاً يُسهم في اختراق المبادئ الوطنية والقومية والحضارية، التي تمثّل مكوناتٍ أساسيةً للانتماء العروبي، وبما يحافظ على الهوية التاريخية وما يلتحق بها أخلاقاً وسياسةً وثقافةً وما يرتبط بالانتماء الحضاري التاريخي.
إن واقع الحال العربي الراهن، في كثير من تجلّياته الجغرافية والسياسية والثقافية، يئن تحت قبضة النواقص والأخطاء التي كلّفته، في عدة مناسباتٍ كبرى، خصوصاً في مراحل الاستقلالات الحديثة. ويُعتبر ما يجري الآن في بلدان عربية من صراعاتٍ وحروبٍ وصداماتٍ، حوادث تجريبيةً تمّت لتُخرج ما في الخوافي إلى الظاهر. وقد كان ذلك مكلفاً للغاية، إذ أحدث شروخاً عميقةً في قلب العالم العربي لا يمكن أن يتابع مسيره إلا إذا وضع في استراتيجياته فواعل عميقةً لإعادة بناء بلدانه، والتي أقل ما يقال عنها إنها نُكبت نكبة فوق كل طاقة للتحمل، هذا في ظل افتقاد المشروعين الوطني والقومي معاً، واللذين أُهدرا في اللحظات السوداء.
لقد كانت بداياٍتٍ تاريخية تؤسس لما ينتج حضاراتٍ مرموقة برزت بصيغة الحضارة العربية، وتركت بصماتٍ كبرى في تاريخ البشرية. وهنا نجد أنفسنا في موقعٍ تاريخي ذي أهمية كبرى في تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، وضمن مرحلة نشوء وبروز النظام الأوروبي الاستعماري، نقوم بعملية تفكيك التطور الرأسمالي نفسه، والذي أنتج نموذجين مهمين كبيرين للتاريخ العربي؛ ما يدل على ضرورة البحث التاريخي الجدلي ويبين أهميته.
في أوروبا نفسها خلال العصر الحديث نشاهد باحثين مستشرقين تركا أثراً عميقاً في الكيفية التي ينظر بها الباحثون الأوروبيون إلى الحضارات غير الغربية؛ إنهما كيبلينغ وزيغريد هونكه. لقد كتب الأول منهما، وبروح المستعمر المتكبر: «الشرق شرق، والغرب غرب، ولا يلتقيان»!
نعم، لا يلتقيان كما هو الحال في العلاقة بين التخلف والتقدم، وبصيغة تجعل الشرق مأوى للتخلف الأبدي السحيق، والغرب مأوى للتقدم والحضارة أبداً! والكتاب إياه يضيف إلى تلك الثنائية الزائفة قائلاً: ولا يلتقيان! أي أن كليهما أبديٌ وثابت: الغرب في حضارته الخارقة، والشرق في تخلفه المقزز!
لكن واقع الحال التاريخي ليس ذا بعدٍ واحد، فسيبقى التاريخ ثرياً بالحضارة الإنسانية. وواقع الحال التاريخي يُقرأ من عيون العلم التاريخي الدقيق؛ وحينئذ تبطل تلك الثنائية الزائفة، وهذا ما فعلته الباحثة الإنسانية الألمانيةSigrid Honke، في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب». إن هذا العنوان الهائل في دلالته الإنسانية والعلمية قلب المعادلة الزائفة إلى صيغتها التاريخية الصحيحة وذات الحضور البشري الدائم: نعم إن العرب هم الذين سطعت شمسهم على الغرب وكان ذلك شرفاً لهم ونجاحاً تاريخياً. وهكذا نجد الدرس التاريخي قد أثمر.