صرخةُ تاجر يمنيّ من زبيد، أسمعها في الفجر رجالاً في مكة يطلب إنصافه: (يا آل فهر لمظلوم بضاعته/ببطن مكة نائي الدار والنفر/إن الحرام لمن تمت كرامته/ولا حرام لثوب الفاجر الغدر). تلك الصرخة صنعت حلف الفضول، إذ اجتمع لصرخته في ذلك اليوم خمس عشائر من قريش في بيت سيدهم عبدالله بن جدعان، يشغلهم أمر واحد (لا يُظلمُ أحدٌ في مكة إلاّ وتردُ ظلمته)، بعدها ردوا لليمنيّ ظلمته من «العاص بن وائل»، الذي كان قد حبس عليه ثمن بضاعته. حدث ذلك في مكة قبل أربعة عشر قرناً (590م)، قبل البعثة المحمديّة. بعد الإسلام، استمر صدى حلف الفضول في جزيرة العرب واتسع نطاقه، في أم القرى وما حولها. وكان للنبي العربي محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم) قولٌ فيه، إذ كان قد شهده مع عمومته وعمره 20 عاماً. قال محمد:(لو دُعيتُ إلى مثلهِ اليومَ لاستجبت..). في أبوظبي، ارتفعت الأربعاء الماضي عبارة «حلف الفضول» شعاراً للملتقى السنوي الخامس لـ(منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المُسلمة)، برعاية سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، ورئاسة معالي الشيخ عبدالله بن بيه رئيس (مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي). لنجد في هذا الملتقى محاولة جادة ومعمقة لربط القرن الحادي والعشرين بالقرن السادس الميلادي، في جانب حقوق الإنسان تحديداً، ولربط أبوظبي بمكة المكرمة لجهة ما نص عليه حلف الفضول من نصرة المظلوم، في نسخته العربية الرائدة والمبكرة تلك، لنكون دائرة زمنية متكاملة شدّ فيها الحاضر إلى الماضي، وقد تمحورت حول القيم الحميدة المطلقة نفسها، تلك التي انعتقت في «حلف الفضول» من محدودية المكان لتشمل العالم بأسره. قيمٌ أخلاقية ليس لها علاقة لا بجغرافيا ولا بقبيلة ولا بدين معين، بل كانت علاقتها بالإنسانية التي يجب فهمها على أنها محبة وعدالة ومساواة وتسامح وتآزر، واجتماع على البر في إطلاقه.
من الأسئلة التي تحمل عتاباً أكثر مما تنتظر أجوبة، ونعلم أنها متأخرة: لماذا لم تظهر من قبل أية محاولة لتجديد حلف الفضول، هذه الوثيقة العربية الرائدة في حقوق الإنسان التي تبعث على الزهو والافتخار؟ لماذا لم يجر تبيانها وتقديمها إلى أمم الأرض وشعوبها كأفضل تعبير قيمي عن العرب والإسلام في آن معاً؟ وهنا لا يجب أن يقال إن الآخرين لا يفهموننا، بل الأصح والأسلم القول: إننا نحن من يهمل تسويق كنوزه التراثية المضيئة، إننا نحن من يتوانى عن تقديمها إلى العالم لتكريسها والاطلاع عليها من قبل الهيئات العالمية، والحديث عنها في المحافل الدولية على تعددها واختلاف أنشطتها بغية إدراجها في الأدبيات العالمية الحية. العزاء اليوم وفي الملتقى الخامس يطلق (حلف فضول عالمي) ليطلع العالم على رسالته وأهدافه الإنسانية النبيلة، يعرف به كأقدم وأفضل وثيقة على وجه الأرض. وللمناسبة نقول: إن حلف الفضول أقدم من وثيقة (الماغنا كارتا أو الميثاق الأعظم) البريطانية المُعتمدة عام 1225م. علينا أن نفخر أننا ورثة حلف الفضول الإنساني، ليس فقط لاستخدامه كإشراقة في التاريخ نطل منها في فترات اليأس والتبعثر، كي نتزود ببعض الزهو والثقة بالذات، بل لأنه مقاربة معاصرة لتأصيل فكرة حقوق الإنسان، من خلال هذه الوثيقة كرمز عربي شامخ يعمق قيم العدل والمساواة، ولا بأس أن يُذكّرنا بحقوقنا الغائبة.