يعني التجدد الحضاري انتقال الوعي الحضاري من فترة سابقة إلى أخرى لاحقة، من الماضي إلى المستقبل، مروراً بالحاضر. وعكسه الجمود الحضاري، وهو عيش حضارة ماضية في عصر مغاير، كما هو حال الوعي العربي المعاصر الذي يعيش ماضيه رغم تغير ظروف العصر، من الانتصار إلى الانكسار، ومن الفتوحات إلى الانحسارات.
ويشمل التجدد الحضاري كل مظاهر التجدد في سائر مناحي الحياة، في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة، أي في كل مظاهر الحضارة أو العمران بتعبير ابن خلدون. ولا يكفي في ذلك التجدد الحضاري عند النخبة التي بيدها مفاتيح التحديث وآلياته، بل يشمل أيضاً مظاهر الحياة العامة عند الجماهير. فقد عاشت النخبة الليبرالية من الطبقة العليا في النصف الأول من القرن العشرين، التجدد الحضاري في العصر الليبرالي الرأسمالي دون الجماهير. كما عاشت نخبة أخرى من الطبقة الوسطى في النصف الثاني من القرن العشرين التجدد الحضاري في العصر القومي الاشتراكي دون مشاركة الجماهير أيضاً. وانتهت التجربتان بنكوص حضاري على مستوى العدالة الاجتماعية أولًا، والحريات العامة ثانياً.
وتتطلب مرحلة الخروج من الجمود والتكلس إعادة بناء الموروث الثقافي القديم حتى يكون حاملاً ًللمشروع النهضوي الجديد ويخرج عن النخبوية الأولى ولا ينتهي إلى انهيار الدولة الوطنية أو إلى الاستقطاب الحالي بين السلفية والعلمانية. ولا يكفي في ذلك مجرد الإصلاح الجزئي، كما حدث في النهضة العربية الأولى، كما فعل محمد عبده، بل نقل الموروث الثقافي كله إلى مرحلة جديدة من التجدد والتطور.
فبدلاً من الحديث عن «الإنسان الكامل» في التصوف و«الذات والصفات والأفعال» في العقائد، يمكن استعادة هذا الكمال المفارق إلى الكمال النسبي في الإنسان الوجودي الحي الذي يستطيع تحويل نقصه إلى كمال عن طريق الفعل. والعلم والقدرة والحياة، والسمع والبصر والكلام والإرادة مُثُل عليا إنسانية للتمثل وللتحقيق وليست لمجرد المناجاة. وعلى هذا النحو يتحول التوحيد من تكلس علم العقائد القديم إلى حياة وفاعلية في عالم الواقع.
لقد تنازل الإنسان عن إرادته الحرة وقدرته على الاختيار، وسلّم نفسه للمؤلَّه، فوقع في الجبر. وتحول القضاء والقدر إلى عقيدة شعبية تعبر عنها الأمثال العامية مثل «المكتوب مامنوش مهروب»، «العين صابتني ورب العرش نجاني»، والله هو الذي يحدد الآجال والأرزاق.
لقد تم استعمال العقل في تبرير معطيات الواقع دون نقدها وتحليلها. اقتصرت وظيفته على إيجاد البراهين والأدلة على صدقها وليس بناءً على المصالح العامة. وهذا هو الذي جعل العقل العربي يقوم على تبرير النظم الاجتماعية من خلال مثقفي أجهزة الإعلام الرسمية.
لقد ورثت الأمة أن الإيمان قولٌ، أي تمتمة بالشفتين؛ فكل من قال لا إله إلا الله فهو عضو في الأمة حتى لو أضمر غير ذلك في قلبه، وحتى لو لم يتفق عمله مع قوله، وسلوكه مع إيمانه. وكان هو الاختيار الذي حتمته الفتنة الأولى، والحروب بين المسلمين، والحكم على أعمالهم بالكفر عند الخوارج أو الفسوق عند أبي الحسن البصري أو النفاق عند المعتزلة. وقد تحول ذلك إلى موروث شعبي يؤخر العمل على الإيمان.
وكثيراً ما تم اتهام العرب بأنهم أهل فصاحة وبيان، وأن حضارتهم حضارة قول وكتاب.. في حين تحول الغرب إلى الفعل كما قال جوته: «في البدء كان الفعل». والحقيقة أن التجدد الحضاري يتطلب الفعل مع القول، والتغيير مع التنظير.
والفرقة الناجية واحدة، وغيرها من الفرق هالكة ضالة. ومع أن الصواب في الفقه متعدد، فإنه في العقيدة واحد. لذلك أصبحت للشعب أيديولوجية الطاعة والصبر والتوكل والورع والرضا والزهد والخوف والخشية.. لكن التجدد الحضاري يتطلب التعددية الفكرية وتأكيد حق الاختلاف.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة