«السلام مستحيل، والحرب مستبعدة»، و«العالم ليس في فوضى بل في مرحلة انتقالية»، و«ليس المستقبل فقط غامضاً، بل الحاضر أيضاً»، و«بعد ربع قرن من السيطرة العالمية لقوة عظمى واحدة، النظام العالمي يتحرك مرة أخرى»، و«الثروات العالمية تنتقل إلى الجنوب والشرق»، و«العالم دخل مرحلة اللامعقول واللامبالاة بالمؤسسات، وبالمبادئ، وبالمراجع»، و«أمل الغرب في أن تصبح الهند حليفاً حقيقياً قد ينكشف عن وهم، مثل سياسة دعم تطور الصين»، و«يمكن تخيل مستقبل من دون عقائد، ولا دول، ولا قوى عظمى، لكن لا يمكن تصوره من دون «آيفون وطائرات».. هذه مقتطفات من مساهمات نخبة أكاديميين ودبلوماسيين، وخبراء العلاقات الدولية من بلدان مختلفة في استقصاء عن التغيرات المتسارعة في النظام العالمي. نظّمَت الاستقصاء مجلة «روسيا في الشؤون الدولية» التي تصدرها بالروسية والإنجليزية «مؤسسة أبحاث السياسة الخارجية» في موسكو.
و«هذا زمن الاختلال»، ذكر ذلك في الاستقصاء «روبرت كوبر»، وهو دبلوماسي بريطاني، ومستشار سابق لـ«الهيئة الأوروبية»، وقال: «ما حدث منذ الحربين العالميتين، وما أعقبه من فوضى السلام، كان للناس آنذاك امتياز معرفة أنهم لا يعرفون. والآن نحن معميون بالأضواء البراقة للتغيرات، ومبهورون بسرعتها، وغارقون بقصص تُحكى لنا عن المستقبل، ولا نعرف حتى أننا لا نعرف». ويختتم مداخلته بالقول «أنا على يقين من أمر واحد فقط، وهو أنني على خطأ».
وليس سبب التغيرات العالمية استعادة الصين والهند وروسيا فاعليتها السياسية فحسب، بل وأكثر أهمية الكلل الذي أصاب زعيمة العالم واشنطن المثقلة بأعباء القيادة العالمية، والراغبة في إعادة توزيع الثقل على الحلفاء الأوروبيين لزيادة مساهمتهم في موازنة «الناتو»، والانسحاب من «اتفاقية باريس للمناخ». قال ذلك «ديمتري ترينين» مدير معهد «كارنيجي» في موسكو، واعتبر إجراءات «ترامب» «استمراراً أكثر قوة لسياسات أوباما في التقليل التدريجي للتدخل في مسائل خارج الولايات المتحدة».
وشارك في الاستقصاء الأكاديمي «شاز فريمان» سفير واشنطن في السعودية خلال حرب الخليج «عاصفة الصحراء»، والذي انتقد بشكل واضح وقوي «ترامب» في حديثه عن «تعظيم الذات»، و«أنوية» الزعماء، و«اصطناعهم هويات شعبوية، وترويج أوهامهم، والعمل بموجبها، ورفض الحقائق التي لا تلائم حكاياتهم، والتبجح، والبلطجة، والمقاطعات، والتخريب، والقصف بالقنابل قبل الكياسة والتفاوض، كوسائل لحل الخلافات بين البلدان».
ويعتقد «برونو ماكايس» وزير البرتغال للشؤون الأوروبية، أن الأوروبيين يحتاجون إلى كلمة تجمعهم، كما جمعتهم كلمة «أوروبا» في القرن التاسع عشر، وهذه الكلمة الآن «أوروآسيا»، الجغرافيا، التي تتركز فيها القوة الاقتصادية، والسياسية، والثقافية. وهي مكان نزاع، وتناقضات، منقسمة بين ثقافات مختلفة، وتَعِدُ بجوائز كبرى للمنافسة والسيطرة. والمدهش أن أوروبا كما في القرن التاسع عشر تماماً تعيش علاقات مضطربة المسافة والقرب من جزيرة-مملكة على سواحلها، كذلك «أوروآسيا» تجهد في مناشدتها واجتذابها للولايات المتحدة، الدولة القوية الواقعة عبر «الماين» أو «ألاسكا» والتي تقوم سياستها الخارجية الآن على علاقة مرجعية بـ«أوروآسيا»، وهي بهذا المعنى على الأقل حلّت محل مفهوم «الغرب». ويمكن القول إن الولايات المتحدة تصبح قوة واقعية في عالم مثاليات عدة: «الوحدة الأوروبية»، و«الحزام والطريق»، و«هندوستان» و«الروح الروسية».
وينبّه الأكاديمي الصيني «هوانغ جينغ» إلى أن «النتيجة الأساسية لصعود الصين في النظام العالمي بتشجيع وترابط مع سياسة الولايات المتحدة أن كلا البلدين أصبحا مترابطين بشكل لا ينفصم، وهذا جعل علاقاتهما ترتفع على نمط العلاقات التعددية، وهي تتحدد في الواقع على أساس سياسات داخلية، وليس ما إذا كانت واشنطن وبكين تتفقان على مسألة سياسية معينة. فصانعو السياسة في كليهما مشبوكون بجماعات مصالح واسعة التنوع، ذات رهانات مختلفة». وهنا أفضل وجهات النظر العالمية الحكمة الصينية التي تقول: «أكثر الثمار نضجاً تسقط في أوانها»!