منذ صوتت أغلبية البريطانيين لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، والاختلافات لا تنتهي حول شروط هذا الخروج وتوقيته، بل وحول مبدأ الخروج نفسه، إذ أن ثمة من يطالب باستفتاء جديد بعد أن اتضحت مساوئ الخروج، غير أن هذه الخلافات كانت تدور أساساً في الساحة البريطانية إلى أن أعلن رئيس الوزراء الإسباني عدم موافقته على وضع جبل طارق في الاتفاق الأوروبي مع بريطانيا وأنه سوف يستخدم حق الاعتراض عليه في القمة الأوروبية المنعقدة لإقرار الاتفاق.
وليس الخلاف البريطاني الإسباني حول جبل طارق بالجديد، وإنما كانت المفاجأة في توقيت إعلان رئيس الوزراء الإسباني قبيل القمة بعد أن ساد تصور بأن معركة الاتفاق داخلية بريطانية بامتياز وليست أوروبية. ومعلوم أن جبل طارق -وهو شبه جزيرة متصلة بالبر الإسباني- قد دخل في السيادة البريطانية عام 1713 بموجب معاهدة أوترخت المبرمة عقب حروب الخلافة الإسبانية، وكانت بريطانيا وإسبانيا موقعتين عليها. ومن الواضح أن إسبانيا تخلت عن جبل طارق في ظروف ضعف جعلتها تستجيب للمطالبة البريطانية بالسيادة عليه، نظراً لأهميته الاستراتيجية الفائقة رغم صغر مساحته (أقل من سبعة كيلومترات مربعة)، كونه بوابة الدخول الوحيدة إلى البحر المتوسط والخروج منه، ناهيك بالزيادة الهائلة في هذه الأهمية بعد افتتاح قناة السويس بالنظر إلى المشروع الاستعماري البريطاني في أفريقيا وآسيا. وقد نُقل عن مسؤول في الجيش البريطاني قبل سنوات قوله: «لو لم يكن جبل طارق موجوداً لكان ضرورياً اختراعه، لأننا هنا أقرب ألف ميل إلى الخطر».
وقد أقامت بريطانيا في جبل طارق قاعدة عسكرية تسمح بمراقبة المتوسط الذي يعبره قسم كبير من النفط والغاز الطبيعي اللذين تستهلكهما أوروبا. وبسبب هذا الوضع الحساس لجبل طارق تحت السيادة البريطانية، والذي يشبه وضع جزر الفوكلاند في الأرجنتين، كان من الطبيعي أن تطالب إسبانيا منذ تعافت من حروبها الأهلية المتكررة باستعادة السيادة على جبل طارق، لكن بريطانيا رفضت ذلك دائماً، بل كانت ترفض وضع القاعدة تحت السيادة المشتركة أو استخدامها من الجانبين على نحو مشترك. والمفارقة التي تكشف عن ازدواجية المعايير أن إسبانيا التي تطالب بحقها في جبل طارق تحتفظ بمدينتي سبتة ومليلية المغربيتين الواقعتين بدورهما داخل التراب المغربي، مقدمةً بذلك المبرر لبريطانيا بأن الانفصال الجغرافي، كما في حالة جبل طارق، ليس مانعاً للسيادة. وإزاء إخفاق إسبانيا المتكرر في استعادة جبل طارق، عمدت لتشديد إجراءات التفتيش على الذين يعبرون الحدود من وإلى جبل طارق مما يتسبب في طوابير انتظار طويلة، على أساس أن بريطانيا لا تقع ضمن منطقة «شنجن» المعفاة من إجراءات المرور بين بلدانها، ووصل الأمر في أغسطس الماضي إلى تهديد لندن بملاحقة مدريد قضائياً، فيما هددت الأخيرة بإحالة القضية للأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، كما ذكرت تقارير أن ثمة تفكيراً إسبانياً في التنسيق مع الأرجنتين، صاحبة الخلاف الشهير مع بريطانيا حول جزر الفوكلاند. وهكذا فإن التوتر بين بريطانيا وإسبانيا سابق بكثير على اتفاق الخروج البريطاني، وإن كان رئيس الوزراء الإسباني قد وظّفه في اللحظات الأخيرة قبل القمة الأوروبية المخولة بإقرار الاتفاق، وقبلها بيوم واحد أُعلن التوصل إلى اتفاق بين الطرفين وأعلن رئيس الوزراء الإسباني أن أي قرارات في المستقبل تتعلق بجبل طارق سيتم اتخاذها ومناقشتها مباشرة مع إسبانيا، وأن لندن تؤيد إجراء مفاوضات مع مدريد حول القضية، وتابع: «تلقينا ضمانات كافية لنتمكن من التوصل لحل للخلاف الذي دام أكثر من ثلاثمائة عام».
والمفارقة أن من شأن هذا التفاهم إنقاذ اتفاق الخروج في القمة الأوروبية، لكنه سوف يضيف مزيداً من الزيت على النيران المشتعلة في بريطانيا ضد رئيسة وزرائها من كافة الاتجاهات بعد أن تُضاف لها تهمة التفريط في السيادة البريطانية، خاصة أن غموض الاتفاق يسمح بهذا لمن يريدون، وما أكثرهم. وهكذا يواصل قرار الخروج البريطاني التربع على قمة القرارات الطائشة!