على مر التاريخ قد يعني التسامح أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين، والتسامح يصعب تعريفه فهو يعني أموراً مختلفة في مجالات مختلفة، فنقول: التسامح الديني أو الاجتماعي أو السياسي.. الخ استناداً إلى أصل الكلمة اللاتيني، والكلمة شاع استخدامها في القرون الوسطى في أوروبا إثر الصراع بين الكنائس والمذاهب المسيحية المختلفة، وكانت تشير إلى تحمل شخص صاحب مذهب ديني مختلف تجاوزاً والتعايش معه وإن كان لا يروق لنا ونختلف معه عقائدياً ومذهبياً، ولاحقاً تطور المفهوم إلى نبذ ورفض التعصب في السلوك والأفكار والمعتقدات، والحديث عن التسامح والمعاملة الحسنة العادلة، وتفتح الآفاق الذي يجعل الشخص يقبل الثقافات والأشخاص والمفاهيم المختلفة التي قد لا يتفق معها، على أن لا يزدري عادات وتقاليد وقيم الحضارات الأخرى ويحتفل بالتنوع.
ومن جانب آخر، لدينا في الإسلام مفاهيم أشمل وأعمّ وأكثر تأديباً للنفس البشرية، وتتمثل في العفو والصفح والغفران والمساواة والعدل وحسن المعاشرة، وحرية المعتقد وهي درجات لصفة واحدة هي التنازل عن الحقوق الشخصية بالسماحة وسعة الصدر للصالح العام، والاحترام المتبادل والتساوي في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن أصل وفصل ودين وثقافة وجنس وجنسية الإنسان.
فالتسامح لا يتعلق بما نتمتع به من استعداد للقبول أو الاتفاق عليه، بل يدور حول تحمّل أولئك الذين لديهم آراء وممارسات مختلفة عن آرائنا، حتى أولئك الذين لديهم اعتراضات ورفض لما نتبنى ونؤمن به، في حال أنه لا ينتهك حقوقنا كبشر وحقنا في الحياة الكريمة، وممارسة حرية الرأي دون الإساءة للآخر، ولذلك فالشعوب المتسامحة تتسم بالانفتاح واحترام الاختلافات القائمة بين الناس، وبجانب التسامح لديها قبول للآخر، وهو مفهوم يختلف عن التعايش السلمي مثلاً، حيث إن التسامح وقبول الآخر مفهومان يتداخلان مع بعضهما البعض في رفض القوالب النمطية غير المنصفة، وهو من دون أدنى شك أمر ضروري لفهم الآخرين من منطلق رؤيتهم هم للحياة.
ويبدو لي كمسلمين من الأفضل أن نستبدل كلمة التسامح بمفهوم أكثر إيجابية وأكثر شمولية، ومفهوم إسلامي أصيل موحدّ للبشرية في المقام الأول، ألا وهو مفهوم الإخاء الإنساني، وهو الذي ينظّم تعاملات الناسِ وتعايشهم دون تمييز، والتحوّل إلى قيمة لا تدعو الناس بأن يتحمّل بعضهم البعض من خلال مبررات أجبروا عليها بصورة أو بأخرى، وعوضاً عن ذلك تعزيز ثقافة أن كل إنسان يستحق أن يعامل باحترام لكونه إنسان فقط مجرد من كل الألقاب والمسميات والتعاريف والهويات والقيم.
ولذلك يجب العمل على تطوير القدرات التي تحتّم على الإنسان العيش مع المتغيرات، والتصرف السوي مع كافة الاختلافات والتداخلات مع تعميم ثقافة احترام تلك الاختلافات، وقد أكون متسامحا مع الآخر ولكن ليس بالضرورة أن يعني تسامحي قبولي له، وأتصوّر أنها هي المعضلة مع الإنسان المسلم في الغالب، والتسامح لدينا يُختزل في الصبر على الآخر ومراقبة القوانين التي تُدين الكراهية والعنصرية والتفرقة، حيث إن الرقيب خارجي وليس من الداخل، ولذلك المشكلة ليس لها حل فوري، ولطالما استخدمنا الدين لتبرير سلب الآخر حقه في التعبير والاختلاف، بل حتى في العيش، وبينما نحن نتغنى بالقيم العظيمة يعيش بعضنا واقعا مغايرا لشعاراتنا الرنّانة، والعديد من ممارساتنا اليومية تسودها غوغائية أخلاقية بشعة.
ناهيك عن العقبات التي تقف في طريق عملية صنع القرارات الأخلاقية، وبالتحديد التصورات المشتركة للمجتمع، وهي تكونت عن وعي أو دون وعي، ولاسيما أن بوابة العقل الشرقي لفهم العالم هو كيف يريد أن يراه هو ويخضعه لمقاييسه، لا كيف هو واقع ذلك الجزء من العالم، ولهذا علينا البدء بتعديل بعض أنماط المعرفة المكتسبة وخاصة المعرفة الدينية والمبادئ والقيم الاجتماعية، ومعرفة أهمية الخبرات الحياتية الأولى في الصغر، والتي هي أساس السلوك الممارس في الكبر بطبيعة الحال، وقوالب غريزية وذكريات ومعلومات غير مفلترة ولم يتم تحديدها ونقدها، وهي تكاد تسيطر على نظرتنا الفردية للثقافات الأخرى، وهو ما يدعوني أن أزعم أن التسامح منظومة غير متكاملة والإخاء الإنساني هو المفهوم الأكثر تغطية لكل الجوانب، والإخاء دعوة إيجابية جوهرها التفكير الإيجابي والتحسين المستمر لمقومات بناء النفس البشرية، وليس البحث عن تفسير لسلوكي التسامحي، وتحديد من يستحقه ومن لا يستحقه، وكيف نستطيع أن نجعل من شخص متسامح في الدولة (أ) وُملهمه ومثلُه الأعلى رجل دين متطرف في الدولة (ب)، فالمسألة ليست كبسة زر وبهرجة إعلامية أو منهجية سلوك قد تتغير بين ليله وضحاها.