تعتبر القارة السمراء وجبةً غنيةً على طبق أي جهة طامعة، فهي طريق استراتيجي للحركة النفطية والتجارية، كما أنها بقعة خصبة بالثروات والموارد الطبيعية، وبغض النظر عن هذا كله فقد آثرت إيران (تجارة الثورة الملالية)، على أي تجارة أخرى، فهي تواظب على تسخير الإنجازات المدعمة لذلك، سواء أكانت اقتصادية أم ثقافية، كافتتاح مراكز عدة تهدف لنشر الفكر الصفوي الخميني، من خلال الملحقات الثقافية التابعة للسفارات الإيرانية في الدول الأفريقية، كما سارت واثقة الخطى في مناطق أفريقية بعينها لدرايتها بأحوال الفقر والأزمات التي تغرق فيها تلك المناطق، لتتخذ منها بؤراً مركزية لتحقيق أهدافها من خلال أفراد لا يكاد يشغلهم إلا توفير أسس الحياة البسيطة.
إيران، أو ما كان يسمى «شرطي الولايات المتحدة» قبل وصول الملالي إلى سدة الحكم، لا يبدو أنها تقبل بأقل من أعماق القارة السمراء لتفرض وجودها، رغم أن خططها باتت واضحة للجميع، ما سبب لها لوماً ونبذاً دوليين، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي اعتبرت طهران تحقيق المشروع الصفوي الخميني غايتها، منتهجةً ما قاله الخميني في أحد خطاباته: «سنصدِّر ثورتنا إلى العالم»، أو ما ادعاه من وجوب تحقيق إيران للعدل الإلهي في العالم! وهنا أصبحت الغاية مبرراً لوسائلهم. وبلا شك فإن العقيدة السياسية الإيرانية تعمل، وعلى نحو مبالغ فيه، بوجب مفهوم «التقية»، أي أن تظهر عكس ما تخفي. ففي قلب العطاءات الثقافية والاقتصادية السخية، أضمرت إيران تشييداً وفرزاً لجماعات إرهابية بأقصى تغلغل ممكن، محافظةً على إبقائها بعيداً عن مقدمة المدفع. فهي كانت ولا تزال تعمل جاهدة لتحقيق أهدافها، من خلال تحريك خيوط اللعبة عن بعد، إذ تستمر في محاولات خداع الشعوب الأفريقية، بل وساسة هذه الشعوب، تحت ذريعة الحماية من الأطماع الغربية، رغم أن طريقة تغلغلها العلنية، والتي تشبه تغلغل الخلايا السرطانية وانتشارها السريع، عكست كمَّ الهوس اللامعقول بالتوسع لدى الملالي على حساب التاريخ والهوية والجغرافيا، وحتى الدين، في بلاد القارة السمراء.. حتى أنها استهدفت أصحاب الطرق الدينية في بعض بلدان شرق القارة، من غير المتمتعين بأي حصانة فكرية أو علمية تحميهم من هذا الانزلاق، لتنشر خلايا من شأنها تحقيق مشروع «تصدير الثورة».
ولنا أن نتأمل تشبيك حبال الترابط وفرض السيطرة الإيرانية، فالرئيس السابق أحمدي نجاد، والذي لم تتعدَّ فترة حكمه كرئيس لإيران الثماني سنوات، طاف على الدول الأفريقية في خمس جولات مطوَّلة، ليفتح باب التعاون على مصراعيه أمام إيران مع هذه الدول، في المجالات كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، في ظل فقر مدقع عانت منه المنطقة الأفريقية.
وقد وعت إيران مبكراً العلاقة الوطيدة بين المشهد السياسي والتأثر بالوضع الاقتصادي، ما يمكنها من ابتزاز الحكومات الأفريقية عند الحاجة لذلك، ورسمت خطة أولى وثانية وثالثة لتمكن تغلغلها من الاستحكام في العمق الأفريقي، ومن هنا انطلقت لزرع فروع اقتصادية، لتحتل الجاليات التابعة لها طائفياً المرتبة الثانية من حيث حجم الاستثمار في القارة الأفريقية بعد الصين بواقع 45 مليار دولار!
وفي حين أن التغلغل الإيراني في العمق الأفريقي، وصل إلى ما يقارب الثلاثين دولة، نجد مقابلاً لذلك وجود وعي بدأ يتعرف على أجندة إيران ونواياها المبيتة. فعلى الصعيد السياسي قطعت كل من جامبيا والسنغال ونيجيريا، علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، لضبطها شحنات أسلحة مكدسة قادمة من طهران. يضاف إلى ذلك قطع العلاقات من جانب الصومال وجزر القمر وجيبوتي والسودان والمغرب علاقاتها مع إيران، استنكاراً لتدخلات طهران في الشؤون الداخلية للدول العربية. وقبل ذلك تم اعتقال دبلوماسيين إيرانيين عدة، تكشف أنهم حاولوا التجسس وجمع المعلومات للتخطيط لأعمال إرهابية في العمق الأفريقي.
ورغم أن إيران تأثرت بالضربة الأولى، فإن الضربة الثانية على الرأس تكون موجعةً أكثر، إذ واجهت إيران رد فعل قاسي لتلك المجريات السياسية، إضافةً لاستجابة الدول الأفريقية للعقوبات الدولية المفروضة على إيران، فيما يخص استيراد النفط، ليكتمل فشل إيراني آخر ليس بالجديد على الصعيدين الديني والاجتماعي، واللذين اعتقد الملالي أنهما سيكونان المعبر الحيوي لفرز أفكارهم وإثبات رهانهم على أن التأثير على العواطف أقوى من السياسة.
ومن ناحية أخرى، فقد بدأت تتغير قواعد اللعبة الإيرانية على الساحة الأفريقية، خاصة في ظل القفزات الجريئة لبعض دول القارة، كإثيوبيا التي تعكس مجرياتها صورة ذهبية براقة، نحو أفريقيا جديدة تطوي صفحات قاتمة من تاريخها معليةً المصلحة الوطنية فوق كل نزاع أو توتر، ومتخطيةً أجواء حرب باردة دامت أكثر من عشرين عاماً، ما دل على وعي ونضج في الرؤية المستقبلية الأفريقية، وسعي الأفارقة بجد لكل ما يحقق مصالحهم، بعيداً عن التدخلات الإيرانية. ولنا أن نقول إن الدول التي تعلن الوئام من رحم التعقيدات، وتعمل بجد على ضبط الموازين والمعادلات، هي بالفعل قادرة على النمو وعلى استيلاد نموذج متميز يجعلها تتربع على المراتب الأول سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، بل وخلق تجارة من نوع آخر!