سألت مؤخراً شخصية سياسية سورية معروفة هل تتوقع بعد تسوية ملف إدلب عودة الدولة السورية التي انهارت في السنوات الأخيرة؟ فردت عليّ بالقول إن الأمر يتوقف على ماذا تعنيه بالدولة، فقد تعود سيطرة الأجهزة العسكرية والإدارية الرسمية على المدن التي انفصلت عن حكومة دمشق، لكن الدولة من حيث هي فكرة جامعة ومؤسسات مشتركة انتهت عملياً، ومن الصعب إحياؤها.
في العراق يحاول رئيس الحكومة الجديد عادل عبد المهدي إحياء الدولة في مواجهة ضغط وتأثير مراكز القوة الطائفية والميليشيات المسلحة والحركات الانفصالية. في لبيبا، صرح مبعوث الأمم المتحدة وزير الثقافة اللبناني الأسبق غسان سلامة أن الصراع لا يمكن اختزاله في صراع تنظيمات وأحزاب، بل هو صراع مجتمعي معقد، ومن هنا صعوبة حسمه بمنطق التفاوض السياسي.
المشكل الأكبر في منطق التسويات السياسية المطروح لحل مختلف هذه الأزمات السياسية والحروب الأهلية هو صدوره عن نموذج وحيد هو نموذج الدولة الوطنية الذي هو الإطار الأوحد للشرعية السياسية داخلياً وخارجياً في عالم اليوم، أن هذا التصور ينطلق من مصادرة معيارية قانونية تتمثل في كون الدولة الوطنية هي الحالة الطبيعية لصياغة العلاقات المجتمعية المنظمة في العصور الحديثة، ومن ثم يتعين تصديرها من ساحة تشكلها الأصلي في أوروبا إلى بقية العالم.
ولقد استطاع بالفعل هذا النموذج الذي ورثته بلدان المنطقة عن القوى الاستعمارية من تحقيق ثلاث مهمات كبرى هي: تأمين السلم الأهلي الداخلي، ودفع ديناميكية التحديث الاجتماعي، وقيادة عملية التنمية الاقتصادية المندمجة في منظومة السوق العالمية.
بيد أن الذين راهنوا على قوة واستمرارية الدولة الوطنية لم يدركوا أنها لا تشكل حالة اجتماعية طبيعية، بل هي كما أثبتت الدراسات التاريخية السوسيولوجية نتيجة عاملين عرضيين هما: تشكيل متخيل سياسي جمعي هو ما تعبر عنه الأمة بمفهومها المدني القانوني الحديث، وبروز مشروع سياسي اندماجي تقوده نخب قيادية مؤثرة وفاعلة في سياق دولي ملائم. لا توجد إذن كيانات سياسية مبنية على هوية وطنية طبيعية حتى لو ترجمت هذه الانتماءات السياسية المصطنعة بلغة قومية أو دينية، كما أن القول بأن الدول الوطنية في منطقتنا من آثار المخططات الاستعمارية التي جزأت الإقليم الشرق أوسطي لا معنى له فالغالبية المطلقة من دول العالم هي نتيجة هندسة خارجية.
السبب الرئيسي إذن لتفكك الدولة الوطنية في البلدان العربية التي شهدت أزمات الانتقال السياسي ليس «اللاشرعية الأصلية» لهذه الدولة ولا غياب نسيج وطني مستند إلى ذاكرة وطنية جامعة، بل هو عجز النخب التي قادت مشروع بناء الدولة في إنتاج هذه الهوية المتخيلة الصلبة والقصور في ترجمتها إلى هياكل مؤسسية فاعلة.
لقد بين المفكر السياسي الفرنسي «برتراند بادي» في كتابه الأخير «عندما يعيد الجنوب اختراع العالم»، أن مجتمعات الحرب التي نشأت على أنقاض الدولة الوطنية طورت آليات اندماج اجتماعي فاعلة وشبكة مصالح اقتصادية قوية لا عن طريق الهياكل المؤسسية (مثل الدول الوطنية)، بل من خلال تطبيع وتنظيم العنف المتبادل، بما أفضى إلى قيام منظومات سلطة مستقرة يتحكم فيها أمراء الحرب، وأدى إلى بروز اقتصاد حرب مثمر مفتوح على الخارج، ومن هنا صعوبة تسوية هذه الحروب الأهلية إلا بإضفاء الشرعية المؤسسية على الوضع القائم، كما كان الشأن في لبنان الذي لم يستعد عملياً وحدته الوطنية بعد أكثر من عقدين من إعلان نهاية الحرب الأهلية.
في مثل هذه الوضع يفقد المفهومان المركزيان في الفكر السياسي دلالاتهما: مفهوم الحرب ومفهوم السلم، ذلك أن الدولة لم تعد في هذه السياقات حالة مدنية ضامنة للسلم الأهلي بل تتعايش مع الصراعات الأهلية وتعكسها في مراكز التمثيل الانتخابي والسلطة التنفيذية، كما أن مقاربات التسوية السلمية التي ترعاها الدول الكبرى والمؤسسات الدولية، وعمليات التدخل وحفظ السلم هي في غالب أوجهها استمرار للحرب بأشكال أخرى.
لقد كان الفيلسوف الألماني «كارل شميت» يقول إن الفكر الليبرالي الحديث عاجز عن التفكير في الحرب التي يعتبرها حالة استثنائية غير مشروعة لا في منظورها الداخلي الأهلي ولا الخارجي ذي الصلة بالعلاقات الدولية، ولذا تحولت السياسة في الغرب الحديث إلى نظام قانوني صرف.
المشكل المطروح هنا هو أن الحرب كما أثبتت دروس التاريخ هي «قابلة الدول وصانعة التاريخ» بالمصطلحات الهيجلية، حتى لو كان السلم هو أفق السياسة والقانون ومقتضى الدين والأخلاق.