يُثار الجدل من جديد حول الزيادة السكانية والتنمية، وبالأخص الزيادات المطردة والسريعة في بعض البلدان النامية، في ظل أزمات اقتصادية تؤثر على الموارد المتاحة ومستويات المعيشة، مما دفع بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى التنبيه لهذه المعضلة والعمل على إيجاد حل متوازن لها. هناك تناقض واضح بين مجموعتين من الدول، فالدول الغنية- سواء المتطورة منها والناشئة- تعاني نقصاً في عدد السكان، في الوقت الذي تحقق فيه معدلات نمو مرتفعة، في حين تعاني البلدان النامية من زيادة كبيرة في السكان في ظل نمو اقتصادي ضئيل، أو حتى تراجع في معدلات النمو وفي الموارد الطبيعية، مما يتطلب ضبط إيقاع النمو السكاني بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى.
ولنأخذ بعض الأمثلة التي يمكن أن تشرح هذه العلاقة المعقدة بين النمو السكاني والتنمية، والتي تتداخل مع عوامل بيئية واقتصادية واجتماعية ودينية متعددة، فالتجربة الصينية الناجحة اتخذت قبل أكثر من ثلاثة عقود تقريباً قراراً بتحديد النسل بحيث تكتفي كل عائلة بطفل واحد فقط، وركزت على تحقيق معدلات نمو مرتفعة نقلت الاقتصاد الصيني من مرتبة متأخرة إلى المرتبة الثانية، كأكبر اقتصاد عالمي. مؤخراً سمحت الصين بإنجاب أكثر من طفل بعد التحسن الكبير في مستويات المعيشة، وزيادة الموارد والتطور الهائل في مرافق البنى التحتية، والحاجة للمزيد من الأيدي العاملة.
التجربة المصرية مختلفة تماماً، فقد ارتفع عدد سكان مصر بأربعة أضعاف خلال ستين عاماً فقط ليرتفع من 20 مليون في منتصف الخمسينيات إلى 100 مليون تقريباً في الوقت الحاضر، في حين ظلت العديد من الموارد، كما هي، بل إن معدل تدفق مياه نهر النيل تراجع بعد إقامة العديد من السدود في دول المنبع، علما بأن الاقتصاد نما بمعدلات لا تتناسب والزيادة السكانية الكبيرة، مما أوجد ضغوطاً كبيرةً على الموارد الطبيعية والبنى التحتية، بما فيها الصحة والتعليم ومصادر الطاقة والمياه، كما تدنت مستويات المعيشة وارتفعت معدلات البطالة، مما دعا الرئيس السيسي إلى تبني حلول لإيجاد علاقة صحيحة بين طرفي هذه المعادلة.
تجربة البلدان المتقدمة تتشابه مع تجربة دول الخليج العربي مع فارق تركيبة المجتمعات في المجموعتين، فالغربية تعاني من شيخوخة المجتمع، في حين تعتبر المجتمعات الخليجية شابة، إلا أنها تعاني نقصاً في الأيدي العاملة المدربة والمؤهلة، إذ كلما تسارعت معدلات النمو - وهو ما يحصل حالياً - ازدادت الحاجة للأيدي العاملة، حيث يمكن للعلاقة المتوازنة بين احتياجات الأيدي العاملة والنمو المساهمة في التغلب على بعض العقبات الخاصة بذلك.
دول الخليج العربية اعتمدت خلال نصف قرن على الخصوبة العالية للمواطنين والذين تضاعفت أعدادهم، إضافة إلى استيراد الأيدي العاملة، إلا أن هناك تراجعاً ملحوظاً في معدلات الخصوبة بين المواطنين الخليجيين خلال العقد الجاري، وهو أمر طبيعي سيستمر مستقبلاً في ظل زيادة الاحتياجات الاستهلاكية، وتغير أنماط الحياة السريعة، مما يتطلب استقطاب الكفاءات والمؤهلات العلمية والمهنية، والتي يمكن أن تشكل إضافة كبيرة للتنمية والاستقرار، خصوصاً وأن هناك تنافساً عالمياً شديداً على استقطاب هذه الكفاءات وتوطينها، حيث يمكن الإشارة هنا إلى النجاح الذي حققته دولة الإمارات في هذا الجانب، إذ تقدمت 12 مركزاً دفعة واحدة العام الجاري، لتحتل موقعاً متقدماً في استقطاب الكفاءات على المستوى العالمي.
والحال أن العلاقة الصحيحة بين الزيادة السكانية والنمو، علاقة استراتيجية يمكن تسخيرها لرفد النمو المتسارع باستقطاب كفاءات ومؤهلات تتناسب والاحتياجات الاقتصادية، إذ يمكن في هذه الحالة أن تُشكل هذه العلاقة عاملاً إيجابياً كبيراً يدفع اقتصادات البلدان لمواقع متقدمة لتتوسع أسواقها الداخلية، وترتفع معدلات الطلب، ويزداد الإنتاج وتتحسن مستويات المعيشة، وتتاح إمكانيات كبيرة لتنمية القطاعات الإنتاجية، مما سيشكل قاعدة قوية للتنوع الاقتصادي والتنمية المستدامة.