الحالة اللّيبية الرَّاهنة عَصِيَّة على الفهم، وغير قابلة للحل إذا نُظر إليها من زاوية التدخلات الكبرى، لكن يمكن الخروج منها في آجال قريبة، إذا أخذنا في الاعتبار البعد الجغرافي للأزمة، لجهة امتداد الأفق واستشراف المستقبل من خلال ذاكرة الرمل وأهله، وسواء صُنِّفت باعتبارها نتاجَ فوضى الشعب الليبي في انتفاضته على النظام السابق، أو اعتُبرت ضرورة للتحول من النظام الأحادي إلى التعددي، فهي نتاج منطقي لتكالب استعماري جديد، في إطار مشروع استراتيجي لإغراق الدول العربية خارج نطاق نظرية التآمر، لكن ما يحدث اليوم معلن مسبقاً، وبمشاركة عربية، بل ومحلية أيضاً، لذلك لا جدوى من كل الاجتماعات التي عقدت أو التي ستعقد في المستقبل من أجل الأزمة الليبية بإشراف أممي، أو من دول الجوار، أو من دول الاتحاد الأوروبي، وتبعاً لهذا، فإن القول بالانتخابات بدعوة وإشراف من فرنسا أو إيطاليا، أو أي دعوة ثنائية أو أكثر من ذلك لا جدوى منها.
هناك مئات أو ربما آلاف الأدلة المنطقية وغير المنطقية، الحقيقية والوهمية، الدالة على أن حل الأزمة الليبية ليس في يد الليبيين حتى لو كانوا زعماء سياسيين أو قادة عسكريين، والسبب أن لكثير من الدول الأجنبية امتداد في الداخل سياسياً وعسكرياً، بما في ذلك دعم العمل الإرهابي، وهذا واقع لا يمكن نفيه، لكنه ليس حقيقة إذا نظرنا لعمر ليبيا التاريخي في الماضي القريب والبعيد، أو في المستقبل المنظور، أي أنها أرض منتجة للقادة وللإرادات ولصناعة التاريخ، فقط تحتاج إلى نداء الضمير على المستوى العالمي، انطلاقاً من كف أيدي الآخرين عن إشعال مزيد من الفتنة ضمن صراع دولي من أجل المصالح.
لمعرفة الوجه الآخر ليبيا، وهو وجه مشرق، تظهر تجلياته في الصحراء، علينا الاستعانة بكتابات المبدع الليبي إبراهيم الكوني، وتحديداً روايته «نداء ما كان بعيداً»، حيث يقول في إحدى فقراتها واصفاً البطل: «كلما جرته الأقدار جنوباً، ووجد نفسه في أحضان الصحراء، استولت عليه الدهشة، واستيقظ فيه حنين مجهول، لم يكن إحساسه الخفي حنيناً، ولكنه وسواس أقوى من الحنين.. إنه نداء، نداء عميق، يستعسر على التفسير، برغم أنه حميم مثله مثل لحن لذيذ لم يسبق له أن سمعه بأذنه، برغم أن القلب أدركه منذ زمن بعيد، بعيد، لم يعشه في ميلاده هذا، ولا في الميلاد الذي سبقه، ولهذا السبب يستجيب له بوجيب غامض كابتهال، وجيب غامض كالصلاة».
وَصْف إبراهيم الكوني لبطل روايته، ينطبق اليوم على كل الليبيين إنْ جاز لنا التعميم حيث يأخذهم الشوق والحنين إلى مستقبل مؤسّس على التراكم التاريخي لجهادهم الأصغر والأكبر، ومثلما طوَّعوا الصحراء عبر رِحالات الإيمان للعرب القادمين من الأرض المباركة حيث مهبط الوحي من جهة، وعبر تعمير للأرض بالحل والترحال من طرف الطوارق من جهة ثانية، في امتداد للصحراء يعجز البصر على معرفة حدوده، وتدركه البصيرة، لتجعل من الليبيين جميعهم في انتظار ميلاد مجتمع جديد، يقوم على ركام الاختراقات، وهوى الأنفس، وطغيان المصالح التابعة..فإنهم ينشدون الآن مجتمعاً ليبياً متماسكاً، وصامداً أمام هجمات قوى الشر.. وما أكثرها اليوم.