كانت باريس تحت الأضواء الكاشفة الدولية خلال الأيام القليلة الماضية، حيث نظم الرئيس إيمانويل ماركون تمريناً دبلوماسياً مزدوج الأهداف، بمناسبة الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى. فيوم الأحد 11 نوفمبر، حضر إلى جانبه ثمانون رئيس دولة وحكومة حفل إحياء ذكرى نهاية هذه المأساة التي خلفت مقتل 18 مليون شخص، وأظهرت، حتى قبل ظهور مصطلح «العولمة»، أنها يمكن أن تكون وجهها الأكثر قتامة.
ولكن هدف الرئيس «ماكرون» لم يكن تاريخياً فقط، ولكن دبلوماسياً أيضاً، ألا وهو تنظيم حدث كبير له علاقة بالأخبار. وقد شكّل إحياء ذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى مناسبةً لتذكيرٍ تاريخي بالأخطاء التي قادت إلى هذه المواجهة القاتلة، وذلك حتى لا تتكرر مرة أخرى. فأشير إلى التاريخ من أجل إنارة الحاضر. وفي هذا الإطار، قال إيمانويل ماكرون: «إن التاريخ سيحتفظ بصورة: صورة ثمانين زعيماً مجتمعين تحت (قوس النصر) في سلام. ولكن ما هو غير مؤكد هو كيف ستؤوّل هذه الصورة: فهل ستؤوّل كرمز لسلام دائم بين الأمم أم كلحظة أخيرة للوحدة قبل سقوط العالم مرة أخرى في فوضى جديدة».
الرئيس الفرنسي ربما يبالغ قليلاً في وصف الوضع من أجل إيقاظ الضمائر أمام ما يسميه «أزمة التعددية». ذلك أنه بالنسبة له، الأمر يتعلق بتعبئة العالم ضد العمى الذي يصيب بعض الزعماء الذين يتصرفون مثل «من يمشون أثناء نومهم»، على غرار زعماء بداية القرن العشرين، والذي يمكن أن يفضي، كما يقول، إلى كارثة جديدة تحل بالبشرية. وبعد ظهر ذاك اليوم نفسه وخلال اليومين التاليين، نُظم «منتدى باريس للسلام» بمساهمة من بعض المؤسسات الكبرى، من بينها هيئة البيئة – أبوظبي.
هذا المنتدى الكبير جمع رؤساء دول وحكومات ومنظمات دولية ومنظمات غير حكومية وعلمية ومديري شركات بأشكال متنوعة ومتعددة. وإذا كان إيمانويل ماكرون لم يَصُغ الأمر على هذا النحو، إلا أن الجميع فهم أنه يريد معارضة رؤية دونالد ترامب، الذي حضر فعالية الصباح، ولكنه تغيب عن «منتدى باريس للسلام». فماكرون يريد تجسيد «التعددية» أمام «الأحادية» التي يَعد بها ويمارسها دونالد ترامب.
الرئيس الفرنسي يريد أيضاً الدعوة إلى مزيد من الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا إزاء الولايات المتحدة، التي أصبحت مترددة في حمايتها. وهي عملية محفوفة بالمخاطر، ذلك أن إيمانويل ماكرون يريد الحفاظ على علاقات شخصية جيدة مع دونالد ترامب (وعلى أي حال، فإن الزعيمين التقيا في قصر الإيليزيه على هامش اجتماعاتهما)، وأن يكون في الوقت نفسه المعارضَ الأول لخطه السياسي. ولكن هل سيستطيع تحقيق الاثنين معاً لوقت طويل؟
وعلى نحو جد لافت، تحدث خلال افتتاح المنتدى متحدثان اثنان، علاوة على الرئيس الفرنسي: المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وذلك من أجل إظهار أن الكراهية التي كانت سائدة ذات يوم بين الفرنسيين والألمان لم تعد موجودة اليوم، وأن البلدين اللذين تصادما بشكل مباشر في 1914 أضحيا اليوم شريكين لدرجة أنه بات يطلق عليهما في كثير من الأحيان لقب «الثنائي الفرنسي- الألماني»، وأمين عام منظمة الأمم المتحدة أنتونيو جوتيريس الذي لا يحظى بإعجاب كبير من قبل دونالد ترامب، ولكن دوره يظل أساسياً ولا غنى عنه.
فما لا شك فيه أن الأمم المتحدة تعرف بعض الإخفاقات، وأبرزها حالياً ذاك المتعلق بسوريا. غير أن هذه الهزيمة هي هزيمة للدول الأعضاء المنقسمة على نفسها أكثر منها هزيمة للأمم المتحدة نفسها. ثم من يستطيع أن يقول إن العالم سيكون أفضل حالاً من دون الأمم المتحدة؟ وبالنظر إلى عدد رؤساء الدول والشخصيات الحاضرة، فإن «منتدى باريس للسلام» مثّل نجاحاً لافتاً ومدعو إلى أن يصبح حدثاً سنوياً.
بيد أن أسلوب «ماكرون» يواجه مشكلتين: الأولى تتعلق بألمانيا التي يُعد دعمها له أساسياً من أجل خلق حركة في أوروبا. والحال أن أنجيلا ميركل التي أُضعفت سياسياً، باتت في نهاية السباق السياسي وربما لن تكون لديها الإمكانات لأن تكون مؤثّرة بالقدر الذي تريد. أما الثانية، فهي أن العديد من البلدان في أوروبا لا ترغب في تحدي دونالد ترامب، إما خوفاً أو اقتناعاً.