خلال إحياء الذكرى المئوية للهدنة التي أنهت الحرب العالمية الأولى، ندّد كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل – زعيمي البلدين الرئيسيين اللذين حاربا بعضهما بعضاً خلال تلك الحرب – بالقومية باعتبارها سبباً رئيسياً لإراقة الدماء. غير أنهما أضاعا فرصة للتفكير في النتائج المستمرة إلى اليوم لصفقات القوى العظمى التي أعقبت الحرب الكبرى: ذلك أن العديد من بؤر الصراعات ومناطق الحروب اليوم كانت نتيجة لتلك الصفقات. فعبر تفكيك الإمبراطوريتين النمساوية-المجرية والعثمانية، العجوزتين والفضفاضتين، أطلق المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، وفي مقدمتهم البريطانيون والفرنسيون، القوميات التي كانت تغلي داخلهما. وإذا لم يكن ذلك، في البداية، تحولاً إلى الأسوأ دائماً، فإنه أتى بنتائج عكسية بأشكال متنوعة.
ففي الشرق الأوسط بحدوده الاعتباطية التي رسمها «مارك سايكس» عن الإمبراطورية البريطانية وفرانسوا جورج بيكو عن فرنسا، حجبت القوميةُ العربية وأولوية طرد الأوروبيين في البداية الخلافاتِ الطائفية داخل العالم العربي. هذه الخلافات تمزق المنطقة حالياً. فلا سوريا ولا العراق مقنعتان كدولتين مركزيتين أو وحدويتين بالنظر إلى الصراعات الدينية والعرقية التي داخلهما. وتركيا، التي تُعد أحد أكبر الخاسرين في «الحرب الكبرى»، انتهى بها الأمر في الأخير منخرطة ضد إرادتها في الحرب الأهلية السورية، التي تعود جذورها إلى الطريقة التي وضعت بها سوريا في البداية تحت الانتداب الفرنسي.
وفي أوروبا، خلقت الحربُ العالمية الأولى أوكرانيا مستقلةً - جمهورية أوكرانيا الشعبية - حظيت باعتراف دول المركز في 1917، ثم، في إطار سلامها المنفصل مع ألمانيا وحلفائها، باعتراف روسيا السوفييتية – ولكن ليس باعتراف من كانوا سيفوزون في الحرب قريباً. ثم سرعان ما انتهى التاريخ المتقلب والقصير للدولة المستقلة بعد أن قام الجيش الأحمر باجتياحها في 1920، وفي 1921، قسِّمت بين أوكرانيا السوفييتية وبولندا. والحال أنه لو دعم الحلفاء المنتصرون الاستقلال الأوكراني، لأخذ التاريخ ربما منعطفاً مختلفاً، ولتسنى تجنب النزاع الروسي- الأوكراني الحالي على الأرجح.
والقومية المجرية، التي تُعتبر إحدى أكبر مشاكل الاتحاد الأوروبي حالياً، تتغذى على مشاعر الاستياء التي خلقتها اتفاقية «ترينون» في 1920، عندما اقتطع الحلفاء 72 في المئة من أراضي المجر. والنزاعات الحالية بين المجر وأوكرانيا، التي تقوم فيها حكومة رئيس الوزراء فيكتور أوربان بمغازلة الأقلية المجرية بما يثير غضب كييف، هي من تداعيات التقليص القسري للمجر بعد الحرب العالمية الأولى.
كل هذا ينبغي أن يعلِّم النخبَ في الدول القوية اليوم ضرورة توخي الحذر الشديد عند تشكيل مصائر البلدان الصغيرة أو المنهزمة. فالغرب لم يقم بشيء، أو بالكثير، لمساعدة روسيا بعد انهيارها في نهاية الحرب الباردة، واليوم هو مضطر للتعاطي مع نزعة بوتين الانتقامية. كما أن محاولات معالجة مشاكل الشرق الأوسط بالتدخل الأجنبي فشلت فشلاً ذريعاً. أما بالنسبة لمنطقة البلقان، فلئن عمّها السلامُ ظاهرياً بفعل تدخل القوى الكبرى، فإنها ما زالت حبلى بمشاعر الاستياء. وفي الاتحاد الأوروبي، المشروع الذي يهدف إلى أخذ رأي الجميع قبل المضي قدماً في أي قرار، أدت المحاولات المتسرعة لفرض حلول في موضوع الهجرة على أعضاء رافضين إلى إغضاب الأوروبيين الشرقيين، الذين طالما انتابهم شك في أن نخبة الاتحاد الأوروبي تُعاملهم كفئة ثانية.
وفي غضون ذلك، أخذ صبر الولايات المتحدة ينفد مع الأمم المتحدة، المنظمة التي يفترض أن تؤخذ فيها آراءُ الدول الصغيرة في عين الاعتبار. وفي أوروبا، يريد ماكرون الدفع بمخططات اندماج طموحة إلى الأمام على الرغم من التحفظات الواضحة لأعضاء الاتحاد الأوروبي الصغار. ثم إن أسلوب تفكير القوى الكبيرة، النابع أصلاً من القومية، وسواء كان معلَناً، كما في حالة ترامب، أو يُنفى بشدة، كما في حالة ماكرون، يثير القوميةَ ويولد النزاعات في البلدان الصغيرة، تماماً على غرار ما فعله لاحقاً عقب الحرب العالمية الأولى.
وبالنظر إلى النتائج الكارثية والمستمرة لتلك الحرب، كان ينبغي أن تكون آليات التوافق أقوى بكثير في عالم اليوم. ويعزى ضعف هذه الأخيرة وهشاشتها اليوم بشكل رئيسي إلى خطأ القوى الكبرى، المنتصرين في الحروب الأخيرة، الصغيرة والكبيرة. كان ينبغي أن يكون هذا موضوعاً للتباحث بين القادة أثناء إحيائهم ذكرى مئة سنة على الهدنة وتبادلهم التهاني حول إنجاز واضح – ألا وهو سلام أوروبا الطويل. بيد أن حالهم لا بأس به عموماً: فالاتحاد الأوروبي يمثل نجاحاً إلى حد كبير، على الرغم من التحديات الكثيرة التي يواجهها. غير أن تغطرس القوى الكبرى يمكن أن يتسبب في غرقه، فقد كان لافتاً جداً غيابُ اعتراف بهذا الخطر في الخطابات التي أُلقيت.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»