ليس بوسع السياسة والإعلام إلا أن يتبادلا المنافع، وإنْ أدى ذلك إلى نشوب صراع بينهما في بعض الأحيان، فمثل هذا الصراع لا يأتي أبداً على هيئة معادلة صفرية، ولا يستمر دوماً، أو يكون عميقاً، إنما هو نسبي ومؤقت وسطحي، ويكون سببه الرئيسي هو رغبة طرفي المعادلة في إحداث توازن بينهما، كي يستمران في تبادل المصالح، وتقاسم الوظائف. فالسياسي يعطي الإعلامي مضمونا يقدمه، وقد يوجهه ويموله وينقده ويجذبه نحوه بكل قوة مستطاعة. والإعلامي يصل السياسي بالناس، ويساعده في رسم صورة جيدة له، ومن دونه يصرخ أهل السياسة في البرية، ولا يسمعون صدى صرخاتهم.
لكن العلاقة بين الطرفين يحددها السياق الذي يعملان فيه. ففي النظم المستبدة، يكون الإعلامي مجرد خادم للسياسي، وعلى النقيض من ذلك يكون الحال في الدول الديمقراطية، كما يحددها مدى إيمان الإعلامي بضرورة استقلاله، الذي قد يعني رفضه لتسييس رسالته الإعلامية، أو أدلجتها إلى حد يجعل مجرد وسيلة للتضليل والتلاعب بعقول الجماهير والتعبير عن فكرة واحدة واتجاه واحد. فاستقلال الإعلام يحفظ له مصداقيته في أذهان الجماهير، ما يعمق ويوسع تأثيره، وهو أمر تحتاجه أي سلطة رشيدة.
لكن ليس من المحبذ وجود ذلك النوع من الاستقلال الذي يجعل الإعلام وسيلة جافة محايدة باردة بلا عواطف مشبوبة، يصنعها أحيانا الشعور بوجود رسالة حيال المصالح الوطنية العامة، والانتصار لقيم الحق والخير والعدل والجمال. عند هذا الحد تتلاقى وسائل الإعلام مع السياسة في جانبها النازع إلى العمل من أجل الناس، وهي مسألة يطرحها ساسة وقادة وأحزاب بلا توقف، يقومون على الأقل بإنتاج «قوة الدفع» التي تخلق توازنا سياسيا واجتماعيا مفيدا للناس، نظرا لأن انفراد شخص أو حزب أو قوة بالسلطة بلا رقيب أو حسيب أو بديل يجعلها تتوحش، ويحرفها عن أسباب قيامها.
ومن بين ألوان عدة من الإعلام يبدو الليبرالي منه، أو لنقل الحر، هو الأكثر قدرة ومَنَعة، حيث تجد وسائل الإعلام الحديثة أرضاً خصبة للتأثير في الرأي العام بالدول الديمقراطية، بل خارج هذه الدول، حين يكون الأمر متعلقاً بمجتمعات بعيدة مكانياً، أو متخلفة زمانياً عن الحرية الإعلامية، لاسيما إن كانت مجتمعات مضطربة بسبب الحروب أو الصراعات العرقية والطائفية والطبقية والجهوية، التي تجعل من أحداثها مادة طيعة لوسائل الإعلام الأجنبية، التي يكون بمكنتها النفاذ إلى قلب الأحداث، وتناولها بشكل يقبل عليه الجمهور ويصدقه.
وعلينا في هذا المقام أن نفحص مصطلحات ثلاثة، الأول هو الديمقراطية الإعلامية: وهي فكرة وممارسة تدعو إلى إصلاح الإعلام بحيث لا يصبح مجرد بوق في فم سلطة، أو مجموعة محتكرة، إنما معبر عن الناس، في هيئة «صحافة الشارع»، التي تقوم بإخبار جميع الأفراد بما يجري، وتمكينهم من المشاركة في صناعته، عبر وسائط الصحافة العامة والإعلام البديل. وهو ما يتطلب ابتداء أن تكون بنية الإعلام ديمقراطية في ملكيتها وتنظيمها وطريقة اتخاذ القرار فيها، بما يمنع أو على الأقل يخفف من غلواء ما تسببه المصالح الخاصة من تحكم في وسائل الإعلام.
وتسعى الديمقراطية الإعلامية إلى وضع نظام إعلامي جديد، لا يرمي إلى الربح، ويحل محل النموذج التحرري الربحي الحالي، وتقوية خدمة البث العامة بحيث تصل إلى كل الناس، وزيادة المؤسسات الصحفية والإعلامية، وفتح باب لمشاركة الجمهور، وتوظيف الوسائط الإعلامية في تعزيز قيم الديمقراطية.
وقد وجد أصحاب هذا الاتجاه في الشبكة العنكبوتية العالمية «ويب» وسيلة لتحقيق ما يصبون إليه، حيث صارت منبر من لا منبر له، وفتحت أبوابا واسعة لمشاركة الناس على اختلاف توجهاتهم، لاسيما مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي الرقمية، التي أصبحت صوت المحجوبين في وسائل الإعلام الرسمية في الدول غير الديمقراطية.
والثاني هو وسائل الإعلام الديمقراطية: وهي وسائط إعلامية تراعي الديمقراطية أفكاراً وقيماً وممارسة وسياقاً في المحتوى الذي تقدمه، وطريقة تنظيم العمل داخل المؤسسات التي تنطلق منها، في ظل الحرص على عدم الاستسلام لقواعد التجارة، ومقتضيات الأيديولوجيا، التي تصبغ الإعلام الآخر، إنما الاستجابة لمبادئ الشفافية والمصداقية والتوازن، والاستقلالية والانفتاح، والإخلاص للمصلحة العامة، وحق الجمهور في المعرفة وتحصيل المعلومات، على اعتبار أن الإعلام يمثل ركيزة من ركائز المجتمع الديمقراطي.
أما الثالث فيتمثل في الصحافة الديمقراطية: وتعني بتصنيف القصص الخبرية وفق تصويت القراء عليها، وتعزز هذا الاتجاه بظهور مواقع التواصل الاجتماعي، حيث بات يؤخذ في الاعتبار آراء الجمهور فيما يتم ترويجه من قصص. وبذا صارت هذه الصحافة، أكثر ملاءمة لسياق ديمقراطي، يراعي حق التعبير والتدبير، وإعلاء القانون، والتمسك بالقيم والمسارات المدنية، وإزكاء الشعور بالمصلحة العامة.