ظاهرة جديدة تسود العالم تكمن في الهجرات الفوضوية، وبالأخص للبلدان المتقدمة في أوروبا وأميركا، فبلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص تعاني فوضى الهجرات، ما ينجم عنها من انعكاسات وتداعيات اقتصادية واجتماعية وثقافية مؤثرة على بنية هذه المجتمعات. من المعروف أن الهجرات وانتقال البشر من منطقة إلى أخرى قديمة بقدم التاريخ، بل إنه بفضل هذه التنقلات انتشر البشر فوق الكرة الأرضية لينقسموا إلى شعوب وتكتلات بشرية لكل منها خصوصياته الثقافية، إلا أن ما نشهده حالياً أمر مختلف تماماً، فهناك شعوب بكاملها تستعد للهجرة بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية في بلدانها الأصلية باتجاه الدول الغنية في الغرب، وربما إلى الشرق في المستقبل.
في المقابل، هناك الهجرة المنظمة والمفيدة لاقتصادات البلدان الغنية بفضل استقطابها الكفاءات والمؤهلات والمواهب التي ساهمت وتساهم في التنمية والابتكار والنمو الاقتصادي والاجتماعي، حيث عمدت البلدان المتطورة إلى منح جنسياتها لهذه الكفاءات وتوطينها، خصوصاً وأن أبناءهم والأجيال القادمة منهم، عادة ما تتميز بنفس المستويات التعليمية والمهنية الراقية، حيث ساهم المهاجرون مساهمة فعالة في عملية التنمية، بل لا يمكن تصور التقدم الذي حققته بعض البلدان، كالبلدان المنتجة للنفط من دون الأيدي العاملة الأجنبية.
بالتأكيد دول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة تعاني شيخوخة مجتمعاتها، وهي بحاجة ماسة لأيد عاملة أجنبية للمحافظة على المستويات المعيشية والخدماتية التي تتمتع بها، إلا أن ما يحدث غير ذلك تماماً، فالموجات البشرية تتدفق حاملة معها القليل من المؤهلات، والكثير من الأميين وغير المتعلمين، ما يشكل عبئاً كبيراً على هذه الدول تتعلق بإعانة الملايين من المهاجرين الذين لا يملكون قوت يومهم.
يشكل ذلك عبئاً اقتصادياً وتحدياً اجتماعياً وثقافياً لا يمكن وقفه، أو التعامل معه بسهولة، إذ من الواضح أن هذه الهجرات ستستمر في السنوات القادمة، فالمهاجرون ليس لديهم ما يخسرونه ولا تفرق معهم، إنْ كان الموت في ظروف اجتماعية بائسة في بلدانهم، أو الغرق في البحار، فتعددت الأسباب والموت واحد. كيف يمكن لبلدان أوروبا الغربية والولايات المتحدة التعامل مع هذه التحديات التي يمكن أن تؤدي إلى تقويض الاتحاد الأوروبي بسبب الخلافات بين أعضائه، وإلى حدوث انقسامات خطيرة في المجتمع الأميركي، هذا عدا التكاليف الاقتصادية والمالية التي لا يمكن تحملها في المستقبل؟
حتى الآن ساهمت هذه الهجرات في تقوية اليمين المتطرف في أوروبا، والذي حقق ويحقق مكاسب انتخابية كبيرة، في حين تحتار الحكومات الأوروبية الحالية في كيفية التعامل مع هذه القضية، خصوصاً وأنها تعاني ضغوط منظمات حقوق الإنسان المسيسة أصلاً، والتي فقدت الكثير من مصداقيتها بسبب ازدواجية المعايير التي تتعامل بها، والتي انكشفت تماماً للرأي العام العالمي. أدى ذلك إلى أن تتعامل بعض بلدان الاتحاد، كألمانيا وإسبانيا وفرنسا برفق مع هذه الهجرات، في حين كان التعامل أكثر شدة وعدوانية في إيطاليا والمجر والتشيك. أما الولايات المتحدة التي تستعد لاستقبال ملايين المهاجرين من غواتيمالا والسلفادور والمكسيك، فإن تعامل إدارة الرئيس ترامب بطريقة عنيفة تختلف عن تعامل كل ما سبقها من إدارات متعاقبة، فهناك مشروع بناء الجدار مع المكسيك والترحيل القسري ووقف الإعانات، حيث ستواجه هذه الإجراءات مصاعب كبيرة بعد الانتخابات النصفية التي جرت مؤخراً، وفاز فيها «الديمقراطيون» المناوئون لسياسة ترامب.
هل هناك حلول أخرى قبل استفحال هذه الأزمة وامتدادها لدول غنية أخرى؟ ربما أحد الحلول يكمن في تقديم المساعدات والقروض لبلدان المهاجرين لإقامة مشاريع تنموية لتوفير فرص العمل ورفع مستويات المعيشة، إذ إنه في هذه الحالة ستكون التكاليف أقل مما هو عليه الوضع الآن، كما أنها ستجنب البلدان الغنية التداعيات الاجتماعية والثقافية السلبية، على أن تنظم عمليات الهجرة وفق الاحتياجات الاقتصادية لهذه البلدان، ما سيجد له انعكاسات إيجابية على بلدان المجموعتين.