بعد الانتخابات النصفية، إذا لم يكن دونالد ترامب خرج أقوى فإنه بات أكثر خطراً. كانت المشادة مع الصحفي من «سي إن إن» مؤشّراً إلى استمرار حربه الضروس مع الإعلام، أما إقالته وزير العدل «جيف سيشنز» مطلع النصف الثاني من ولايته، فيعني تطلّعه إلى استكمال اختراقه السلطة القضائية. كان التحقيق في التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية عام 2016 قيّد تقارب ترامب مع فلاديمير بوتين وشلّ بعضاً من التوجّهات التي تعهّدها في حملته الانتخابية، وسيكون هاجسه الأول تقييد استقلالية هذا التحقيق تمهيداً لوقفه، بحسب الرغبة التي أبداها دائماً. ومع ذلك فإنه لن يتمكّن من تجاوز «الدولة العميقة» وموقفها السلبي تقليدياً حيال روسيا. وفيما أظهر ترامب مهادنة مبدئية مع «الديموقراطيين»، وقد أصبحوا غالبية في مجلس النواب، إلا أنه هدّدهم بما سمّاه «فضائح»، أي أنه سيضيف «الديموقراطيين» أو بعضاً منهم (وفقاً للقوانين التي يعرقلونها) إلى ضحايا تغريداته وتشهيراته.
عشية الانتخابات أشار ترامب إلى تغييرات محتملة، إذ كانت الاستطلاعات السرّية أنبأته بأنه لن يكون استثناءً لتقليد التصويت ضد الرئيس في الانتخابات النصفية، لكنها طمأنته إلى الغالبية «الجمهورية» في مجلس الشيوخ لن تتغيّر. لذلك لم يتردّد في إعلان «انتصار كبير» عندما بيّنت النتائج زيادة في هذه الغالبية، فاعتبرها تزكية شخصية له. سيكون عليه الآن أن يكون أكثر دقّة في القرارات والقوانين التي تمثّل سياسته الداخلية، من الجدار مع المكسيك وقضايا الهجرة إلى الرعاية الصحّية والبنية التحتية والضرائب والأجور. فهذه الملفات هي التي يعتزم «الديموقراطيون» التركيز عليها لتحسين أوضاعهم الانتخابية من جهة ولقطع الطرق إلى ولاية ترامبية ثانية. والواقع أن معظم التحليلات لمخرجات الانتخابات الأخيرة، بما في ذلك لدى الخصوم، لا يخفي أن حظوظ ترامب في رئاسيات السنة 2020 لم تتأثّر سلباً، بل ربما تكون قد تعزّزت. تساعده في ذلك عوامل عدّة: قاعدته الانتخابية لم تتراجع على نحو مقلق، ويمكنه الرهان على استعادة ما فقده منها لأن توزّع الأصوات في الانتخابات النصفية يختلف عنه في الرئاسيات، وانقسامات داخل الحزب «الجمهوري» وازدياد ارتباطه بالرئيس، وبالتالي صعوبة توافق أجنحته على إنتاج بديل منه. وانقسامات أيضاً في الحزب «الديمقراطي» قد تعوّق بروز نجم أو نجوم جدد لتشكيل منافسة جدّية لترامب.
لا شك أن التساؤلات المهمّة تنصبّ على التغييرات المحتملة في السياسة الخارجية. هناك جانبان في هذه المسألة: الأول يتعلّق بتوجّهات الرئيس وإدارته، والآخر بالتعارضات بين الحزبين وانعكاساتها على أداء مجلسي الكونجرس. أصبح ترامب أكثر دراية بما هو ممكن أو غير ممكن في القضايا الخارجية، يمكنه أن يواصل شخصياً محاولاته وإصراره على استقطاب روسيا، لكنه بات أكثر إدراكاً لحساسية هذا الملف وسخونته، وإذ استبعدت موسكو احتمال «التطبيع» مع واشنطن، وفضلت مزيداً من «التعاون»، فقد تكون هذه الصيغة مواتية لترامب، خصوصاً إذا تجنّب ملفات تنتظر موسكو فيها تنازلات أميركية. أما الحرب الاقتصادية مع الصين، فلم تواجه حتى الآن أي انتقادات داخلية حادة، لكن هناك انقسامات في تقويم آثارها، فالقطاعات التي أملت بمكاسب لم تتحصّل عليها بعد، أما القطاعات التي تضرّرت فقد تعتمد على «الديموقراطيين» للتدقيق في أهداف تلك الحرب. ومن الواضح أن القمة الأميركية - الكورية الشمالية هدّأت المخاوف من مواجهة نووية إلا أن النقلة المتوقّعة في العلاقة مع بيونج يانج تنتظر خطوة من واشنطن، وستكون اختباراً مهمّاً لتوافقات ترامب مع أطراف إدارته.
ليس متوقّعاً أن يتراجع ترامب عن «صفقة القرن» لتسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وما يشجّعه على المضي فيها تنافس حزبَي الكونجرس على تأييد كل ما يحقّق مصالح إسرائيل. أما بالنسبة إلى سوريا والعراق وحتى اليمن فباتت مرتبطة أميركياً باستراتيجية احتواء إيران وتمدّدها الإقليمي. هذه المسألة ليست خلافية، فما منع مجلسَي الكونجرس سابقاً من المصادقة على الاتفاق النووي هو ما سهّل لاحقاً الانسحاب منه، كما أن العقوبات التي واظب الكونجرس على إقرارها ضد إيران هي التي مهّدت الآن لتشديد العقوبات. إذاً، لن يكون هناك أي تراجع في هذه السياسة خصوصاً أن تمسك الاتحاد الأوروبي بالاتفاق النووي ومواجهة العقوبات كشف أحد أهم اعتراضات واشنطن، فإيران استغلّت الاتفاق لمنح أوروبا مصالح وحجبها عن أميركا التي لولا دورها في المفاوضات لما كان الاتفاق أصلاً.