مضت تقريباً سبعة عقود على توقيع معاهدة حلف شمال الأطلسي «الناتو» التي كانت وراء إلزام الولايات المتحدة الأميركية وكندا وعشر دول أوروبية اعتبار أن أي هجوم على أي دولة منها هو هجوم عليها جميعاً. وبذلك تأسس أقوى وأكبر حلف عسكري في تاريخ البشرية. وتنعقد باستمرار قمم واجتماعات للدول الأعضاء، منها قمة بروكسل العام الماضي، ولكن هذه المرة وسط غيوم ضبابية قلّ نظيرها، منها ما قام به الرئيس ترامب عندما انتقد ألمانيا بحدة، متهماً إياها بإثراء روسيا، وعدم الوفاء بالتزاماتها بسبب مشروع أنبوب الغاز نورستريم الذي سيربط روسيا بألمانيا. وبموازاة ذلك، وساعات قبل انعقاد القمة، هاجم ترامب أعضاء الحلف الذين «لا يدفعون ما عليهم» للنفقات العسكرية.
ونتذكر أن دول الحلف تعهدت في عام 2014 بإنفاق 2 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي على شؤون الدفاع بحلول 2024، ولكن 15 دولة في الحلف، بينها ألمانيا وكندا وإيطاليا وبلجيكا وإسبانيا، لا يزال إنفاقها على الدفاع تحت عتبة 1.4 في المئة وستكون غير قادرة على احترام وعدها مما يثير غضب ترامب.
وردت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قائلة، إن لألمانيا سياساتها الخاصة، وإنها تتخذ قراراتها بشكل «مستقل».
وهذه المرة أعاد ترامب الكرّة، وهو يقول في تغريدة له قبيل وصوله باريس للمشاركة في احتفالات فرنسا بالذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، إنه قد شعر بالإهانة من تصريحات للرئيس الفرنسي ماكرون حول ضرورة أن تخفض أوروبا اعتمادها على الولايات المتحدة في الأمن، قبل أن يحسن خطابه الدبلوماسي بعد استقباله في الأليزيه ويقول إن بلاده تريد «أوروبا قوية» ومستعدة لمساعدة حليفتها، «لكن على أوروبا أن تكون عادلة عندما يتعلق الأمر بتقاسم عبء الدفاع».
لقد أضحت مسألة الدفاع الأوروبي موضوعاً بالغ الحساسية للرئيس الأميركي الذي يكرر دائماً أن بلاده تدفع الكثير لوضع قسم كبير من أوروبا تحت حماية الدرع العسكرية الأميركية في إطار الحلف.
ويواصل ماكرون الضغط من أجل ترسيخ الدفاع في إطار الاتحاد الأوروبي، ولكنها قضية ليست بالهينة. فالأزمات الاقتصادية للدول الأعضاء وحمى الانتخابات الداخلية فيها.. تجعل الفاعلين السياسيين يتحدثون بحذر عن نفقات الدفاع الأوروبي المشترك. ولا أخال أحداً مستعداً لزيادة نفقات «الناتو» من أموال دافعي الضرائب، كما أن دولاً مثل بلجيكا ضربت عرض الحائط مؤخراً بالمصالح الاستراتيجية الأوروبية باقتنائها مقاتلات إف 35 الأميركية لاستبدال أسطولها المتقادم من طائرات إف 16، على حساب مقاتلات رافال الفرنسية، وهو ما أثار غضب الرئيس الفرنسي عندما صرح خلال زيارته لسلوفاكيا منذ أيام بأن «العرض الفرنسي جاء قبل إبرام الصفقة. يؤسفني الخيار الذي تم اتخاذه. لم يكن عرض رافال البديل الوحيد، بل كان هناك أيضاً عرض يوروفايتر. كان هناك عرض أوروبي حقيقي».
فالقرار كان مرتبطاً بإجراءات بلجيكية وبقيود سياسية، ولكنه مخالف استراتيجياً للمصالح الأوروبية. والرئيس ماكرون يحلم، في إطار النظام العالمي الجديد، بسيادة أوروبية حقيقية، وبأن تكون القارة العجوز قادرة على حماية نفسها.. ولكن هذا التصور يستحيل تطبيقه في إطار ما بدأ يعرفه النظام العالمي من تفشي عقلية «مصلحة بلدي أولاً»، تماشياً مع ما أتى به ترامب من خلال مقولة «أميركا أولاً».
وتعرف إدارة ترامب أنه لا يمكن لأوروبا التخلي عن أميركا، وأن الأولى ستكون ملزمة طال الزمان أم قصر بزيادة مساهمتها في «الناتو»، وهو أمر صعب، أو بشراء المبيعات العسكرية الأميركية كما فعلت بلجيكا وكما يجب أن تفعل دول أوروبية أخرى.. وهذا ما يسعى إليه في آخر المطاف الرئيس ورجل الأعمال ترامب.