في الآونة الأخيرة، رعت إسطنبول عدة مؤتمرات، توحي بتنصيبها لنفسها كعاصمة لمؤتمرات الحركات الإسلاموية «الإخوانية» والسلفية وغيرها، لتضم مؤخراً تحت سقف، الجمعية العمومية الخامسة لـ«الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» ألفاً وثلاثين عضواً، وخمسين هيئة إسلامية. هذا الاتحاد الذي تأسس في 2004 بـ«مباركة» بريطانية، وتمويل قطري، والذي يحمل على جناحي المنظمة المئات من المؤسسات ودعاة التوجه الإسلامي الحركي، يذكرنا بالرعاية البريطانية المقدمة عام 1928، لتأسيس جماعة «الإخوان» الأم على يد حسن الساعاتي، المعروف بـ«البنا».
واندفع الأسبوع الماضِي، انعقاد الجمعية العمومية من رحم مكاني وزماني بالغ الأهمية، فتركيا مجاورة لمشاكل وأزمات يمر بها العالم الإسلامي.
ومن الملفت، الحدث الانتقالي الأهم في مسيرة «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، والذي تسابقت وسائل الإعلام المحسوبة على «الإخوان» لعرضه كحدث طبيعي، بإبراز كهولة العجوز أو «الشيخ المؤسس» يوسف القرضاوي ذي الجنسية القطرية، وهو من أصول مصرية ليعلو منبره في الجمعية جالساً مُظهراً عجزه ومعترفاً بعدم قدرته على القراءة أو الحفظ كما سابقاً، ليعلن أنها المرة الأخيرة لظهوره كمتحدث، نازعاً قلادة «القيادة»، ليتسلمها من بعده عالم المقاصد الدكتور المغربي «أحمد الريسوني».
هذا التغيير المفاجئ لقمة الهرم القيادي لـ«الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، لا يمكن أن يُبرر بتقدم سن الشيخ القرضاوي (93)عاماً، فهو يعتبر في التنظيمات الإسلامية السياسية «رمزاً» لابد من الحفاظ عليه بل وتجييش فريق إعلامي لإلصاق صورته بمتعلقات ذلك الاتحاد.
وربما كان السبب هو التقصير في أداء القرضاوي للمهمة الموكولة من طرف نظام الحمدين، في إدارة أزمات التنظيم الدولي وبخاصة داخل الجماعة الأم في مصر، التي باتت مترهلة الجسد لكثرة انشقاقاتها وانفصالاتها، إعلاناً لـ«توبة»، أو مراجعة، ليحتدم الصراع مؤخراً بين التيار الأصيل للجماعة (القطبي)، وخيار العنف وحمل السلاح، بتكفير المجتمعات ووجوه الخروج على طاعة ولي الأمر وبين تيار الشباب الرافض للقتال وتخريب البنية التحتية لمصر.
تنصيب المغربي «أحمد الريسوني»، ينم عن تخطيط عميق جداً لإحلال هذا الشخص الذي قام بقيادة تنظيمات مشابهة على مستوى دول المغرب العربي، بدلاً من الصورة المترهلة التي تستحضرها الأذهان من خلال استمرار القرضاوي وارتباطها بالهشاشة التي وصل لها التنظيم «الإخواني» بعد حقبة «مرسي» في مصر. وربما فسر ذلك تخلي الاتحاد عن الرمز القرضاوي، فهي فرصة ذهبية لجذب الأنظار نحو «الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين» من جهة، ومن جهة أخرى لإشاحة الأنظار عن التنظيم «الإخواني» دون التضحية بتدهور أكثر مما حل به، لحين تضميد جراحه وإنجاز مراجعات فكرية وهيكلية، ليعود بحلة مختلفة.
وللعاقل هنا برهان لا يقود للاختلاف في مرتكزات سياسة «الإخوان»، منذ وصول «الريسوني»- الذي أصّل لـ«فقه الثورات»- لمنصب نائب القرضاوي في 2012، بعد استقالة العلامة المجدد الشيخ عبد الله بن بيه، الذي كان ومازال يدعو إلى «فقه الإصلاح» على نهج النبوة الراشدة، في وقت متأزم يضم معتركات «الربيع العربي»، فآثرت جماعة «الإخوان» توليد العنف على التبشير بالإصلاح، وما قامت به الأسبوع الماضي يعد استكمالاً لمبدأ لا تنفك أن تبطن ألف أسلوب للوصول له، فإما أن يسلم الحاكم «أي أن يكون إخوانياً»، أو يحكم المسلم «الإخواني».
ومقابلاً لما أثبتته جماعة مصر في تجربتها من فشل التنظيم وعدم كفاءته بتسيير الشؤون الداخلية والحفاظ على علاقاته الدولية المبنية على المصالح العليا للبلد، نجد التجربة التونسية تكشف القناع عن الخطاب السياسي الرسمي التمويهي لقيادة التيار وبين المخطط واقعاً لمستقبل تونس وشعبها، من تسخيرهم لصف الجماعات الإسلامية المقاتلة في ليبيا وغيرها.
وقد تم اختيار «الريسوني» لتغيير مرحلي، أكثر شراسة وعداء، إعلاناً لحرب ضد استقرار الدول، فغدت منذ فترة معروفة مواقفه الداعمة لفقه الثورة سواء أكانت داخل أم خارج المغرب، كما يعتبر ابناً مخلصاً للتنظيم منذ توليه مهمة تمثيل «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» في الرباط، وإشرافه على بلورة «علم المقاصد» في مجلة المعرفة، إضافة لدوره الكبير بتوحيد الجمعيات الإسلامية المغربية ذات التوجه «الإخواني» من جمعيات عدة كالدعوة الإسلامية، والشروق الإسلامي، ورابطة المستقبل، والإصلاح والتجديد على وجه الخصوص، لإنشاء فضاءٍ جديدٍ لـ(حركة التوحيد والإصلاح)، الذي ترأسها لما يزيد عن اثني عشر عاماً، قائماً بتأصيل فقه الترشيد للعمل الدعوي والسياسي، لأبناء الحركة الإسلامية المغربية.
وفي ظل إحلال النائب رئيساً، لبلورة مشروع «الأممية الإسلاموية»، كبديل أو مرادف للتنظيم الدولي «الإخواني»، برز «الريسوني» بفقه الثورة المتخم بالانقياد نحو التشدد في المواقف والعنف، متأثراً بفتاوى شيخه القرضاوي الذي دعا لقتل الرئيس القذافي والعلامة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الذي انتزعت روحه الطاهرة من على منبره، دون احترام لحرمة بيت الله.