صادف يوم الأحد الماضي 11 نوفمبر من العام الجاري، الذكرى الـمئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى التي بدأت في 28 نوفمبر عام 1914، وانتهت في 11 نوفمبر 1918، بعدما حصدت أرواح 18 مليون شخص، في أربع سنوات دامية. يأتي الاحتفال الذي حضره قرابة سبعين رئيس دولة، في باريس، ليؤكد على تضامن العالم في عدم السماح لقيام حرب كتلك الحرب الدموية التي أهلكت البشر، ودفعت أوروبا إلى التخلف أعواماً طويلة، بدل تقدمها، بحيث كانت أوروبا ستصل إلى ما وصلت إليه، منذ خمسين عاماً مضت، سرقتها الحرب من عمرها الحضاري، وجمدتها هباءً. هكذا أوردت بعض الصحف في تعليقاتها على المهلكة البشرية الأولى. المفارقة، أنه لم يكن في خلد القادة وقتذاك، أن مهلكة أخرى ستتكرر بعد وقت قصيرة من نهاية الأولى، وعلى نحو أكثر فظاعة ودمويّة، سيشترك فيها مائة مليون عسكري، وستحصد سبعين مليون شخص، من كل أمم الأرض. يلاحظ اليوم إطلاق الوعود نفسها في كلمات القادة المحتفلين، على اختلاف أعمارهم الواقعية والسياسية، أن لا حرب ثانية، وليس ثمة خيار أمامنا سوى تصديقهم، والدعاء بأن يوفوا بعهودهم، ويرتقوا إلى قيمها الأخلاقية. كما يأتي الاحتفال بالذكرى المئوية للمهلكة العالمية الأولى، اعترافاً بخطئ وفداحة ما حصل وفظاعته، وإذا كان هنالك من فضيلة للاعتراف، فهو ألاَّ يعود قادة العالم، القدماء منهم والمحدثون، إلى الوقوع في الخطأ ذاته، والتسبب بمهلكة بشرية جديدة، يطلق عليها الحرب العالمية الثالثة، فهي إنْ وقعت - لا سمح الله - وسلاحها العلم، سيلحق بالكوكب دمارٌ كبير، وستفقد البشرية جزءاً كبيراً من حياة أفرادها. في سياق متصل بحكمة الاعتراف وفضائله؛ فإن أستراليا اعترفت بقهرها السكان الأصليين (الابورجنيز) فأعتذرت عن سلوكها المشين تجاههم، وأعادت إليهم اعتبارهم وحقوقهم. وهكذا فعلت كندا مع السكان الأصليين (الاسكيمو)، اعترفت بسوء معاملتها لهم، واعتذرت عنها، وأنصفتهم بما أشعرهم أنهم بشرٌ أسوياء، مواطنون كنديون لهم حقوق وعليهم واجبات. فرنسا اعتذرت للجزائريين عن فترة استعمارها لبلادهم، على الرغم من أن الجزائريين ينظرون إلى اعتذارها لهم، أنه ناقص، ثمة ما يجعله ليس مكتملاً. إن الاعتراف والاعتذار، هو في النهاية سلوك متمدّن ومتحضّر، وينم على شجاعة وهي قيمة كبيرة، ورسالة.
الاعتراف باختصار: إن الخطأ يمكن تجاوزه، وأن الثقة قابلة للتجدد، وأشياء كثيرة في الاعتراف أبعد من ذلك، يشعر بها الطرفان. في التاريخ العربي، اتجاه الاعتراف والاعتذار، حديث جداً، لم يتكرّس في الثقافة العربية، لا الشعبية منها ولا الرسمية، لكن ثمة نماذج مضيئة، على قلتها، ويمكن البناء عليها: الزعيم جمال عبد الناصر، اعترف بهزيمته عام 1967 أمام إسرائيل وحلفائها، وقدم استقالته، لكن الشعب المصري قدّر له ذلك، فخرج إلى الشارع لينجح في إثنائه عن الاستقالة. ذلك كان اعترافاً منه بتحمّل مسؤولية فشل مشروع كان يجب ألاّ يفشل، إنها شجاعة. في الأيام القليلة الماضية، تناقلت الصحف العربية والأجنبية كذلك، خبر استقالة وزير الأشغال الكويتي حسام الرومي، بسبب الفيضانات جراء هطول الأمطار في الكويت، والتي خلفت أضراراً غير مسبوقة في الممتلكات العامة والخاصة. هذا الوزير العربي شجاع، على الرغم من إن الكارثة طبيعية، كما هو واضح، وقد لا يكون له يد مباشرة في الأضرار التي تكبدها المواطنون الكويتيون، إلاّ إن غيرته، وضميره المهني، وإدراكه لثقل ما حدث على مواطنيه، اعترف بمسؤوليته عما كان يمكن أن يحد من تلك الأضرار في البنية التحتية. هذا نموذج مضيء ترفع له القبعة. مقطع القول: إذا ما تكرس سلوك الاعتراف/الاعتذار إلى ثقافة عربية، فسنكون على موعد مع ملامح النهوض.