غاية ما تصل إليه الحياة السياسة من نضج أن تدير الأمور نخبة تعي نبض الجماهير الغفيرة، فلا تفتئت عليها أو تتجاوزها باسم الحكمة أو السرعة أو التذرع بمقتضيات المصلحة العامة. لكن أن تنقلب الأحوال فيخطف العوام السياسة، ويجرون النخب وراءهم من دون هوادة، ولا روية، ولا استبصار، فهذا ما لا يمكن قبوله، ولا يجب السكوت عليه.
في حقبة ما بعد الاستقلال ضربت الأنظمة الحاكمة في العالم العربي بشدة على أيدي النخب، التي نضجت في كفاحها المرير ضد الاستعمار من أجل تحرير الأرض وصيانة العرض السياسي والاقتصادي الذي استباحه المحتلون. وكان لضربات هذه الأنظمة المتتابعة أثر بالغ في القضاء تدريجياً على النخب «المضادة»، أو تلك التي لم يرق لها مسلك حكومات ما بعد الاستقلال فعارضتها، متوهمة أن من قفزوا إلى كراسي السلطة، سيوفرون لمعارضيهم حرية الوجود والتوالد والامتداد والاستمرار، حتى ولو من الناحية الشكلية، أو بالمستوى الذي كان عليه الحال أيام المستعمر.
ومع توالي العقود ترنحت النخب السياسية البديلة في أغلب الدول العربية، حتى تم- بعد خمسة عقود من رحيل المستعمر- تفريغ الحياة السياسية العربية من العناصر التي تمنحها الحيوية، وتمدها بالقوة واللياقة، التي من شأنها أن تجعل الاستجابة في صناعة القرارات على قدر التحديات الضاغطة، التي وصلت إلى حد مطالبة العرب بتفكيك نظامهم الإقليمي، الذي عاشوا تحت ظلاله بمسميات عدة، منها «الأمة العربية» و«الوطن العربي» و«العالم العربي» و«العروبة».
ومع اتساع الهوة بين النخب الحاكمة والجماهير العريضة، بعد أن وأدت السلطة أغلب الوسائط السياسية الحقيقية من مؤسسات حزبية ونقابية ورموز سياسيين ووجهاء اجتماعيين، لم يبق أمام الجماهير من طريق سوى التعامل الملتوي مع السلطة. لكن الأخطر هو محاولة التسلل البطيء إلى صفوف النخبة، بدفع عناصر من العوام إلى الصفوف الأمامية.
وهذا التسلل لم يكن قراراً خالصاً للعوام، بل إنه في كثير من الأحيان كان تدبيراً من قبل النخب الشمولية، التي أرادت أن تقطع الطريق أمام النخب البديلة، برغم ما لاقته على أيدي السلطة من تهميش، فلا يكون بإمكانها التواصل مع الجماهير، وتعبئتها حول برامج وأطروحات مغايرة لتلك التي تتبناها الحكومات.
وقد يقول البعض إن هذا حق للعوام كفلته نصوص الدساتير، وهذا صحيح، فإذا كنا ننشد الديمقراطية فإننا يجب أن نؤمن بأحقية أي مواطن في أن يتحرك سياسياً، من داخل المؤسسات وخارجها، ليصل إلى أعلى المناصب. ويزيد هؤلاء بأن في الدول الغربية، يتقدم بعض من ليسوا من المتبحرين في السياسة، معرفة وممارسة، إلى الواجهة. لكن من يطرح هذا الرأي ينسى أو يتناسى الفارق الجوهري بين «عوام المقدمة» في الغرب ونظرائهم في بلادنا. فهناك لا ينفرد المسؤول أو الوزير بصناعة القرار واتخاذه، بل يتوجب عليه أن يراجع مؤسسات وسيطة، استشارية أو مساعدة، تضم بالطبع «النخبة» المنتقاة من الخبراء والمستشارين ورؤساء المؤسسات الوسيطة.
وما سبق لا يعني المناداة بإغلاق الباب أمام العوام في صناعة السياسة، فمثل هذا التوجه سيُنتج على الفور نظماً فاشية، إنما المقصود هو أن ينتهي دور الجمهور عند اختيار من يمثلونه في البرلمان، ومن يقودون الدولة، عبر صناديق الانتخاب، فإن أخلت النخبة الحاكمة بشروط العقد الاجتماعي كان للناس معها تصرف آخر.
إن كثيراً من المفكرين والكُتاب يخافون من الجهر باعتقادهم الراسخ في أن «التاريخ تصنعه النخب» خوفاً من اتهامهم بالفاشية أو النازية، مثلما اتهم الغربيون «جوستاف لوبون» بعد طباعة كتابه الأثير «سيكولوجية الجماهير»، لكن هذه المخاوف لا تغير من الحقيقة في شيء. فعلى مستوى الواقع لا تصعد الجماهير إلى واجهة الأحداث إلا في فترات قليلة متقطعة، ثم تعود إلى أماكنها بعد أن تكون قد أدت الدور الذي حددته لها النخب، ليبقى الفارق بين الدكتاتورية والديمقراطية هي أن الأولى عبارة عن نخبة منقطعة الصلة بالجماهير، حتى وإن أظهرت عكس ذلك من خلال خطاب مزيف حول الانحياز للبسطاء أو محدودي الدخل أو المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، أما الثانية فعبارة عن نخبة تعي مصالح الجماهير، وتسعى إلى تحقيق آمالها وتلبية احتياجاتها.