"الموسيقى تأتي في المرتبة الثانية بعد الصمت، عندما يتعلق الأمر بما لا يوصف".. قال ذلك الفيلسوف الصيني "لاوتزه". والموسيقى تأتيها عازفة البيانو «بوران زازا»، التي ولدت في مدينة «القامشلي» بسوريا، ودرست في قسم الموسيقى بـ«معهد الفنون الجميلة» ورأس أبوها محمد عزيز زازا قسم الموسيقى في «كلية الفنون الجميلة» في «جامعة صلاح الدين» في أربيل. ودرّسَها العزف على البيانو الموسيقيُ الموصليُ «إبراهيم خليل»، مدرِّس «معهد الفنون الموسيقية» في الموصل، والذي دأب على السفر مرتين في الأسبوع إلى «أربيل» لتدريسها، وأوقفه احتلال «داعش» للموصل. وواصلت «بوران» دروسها بنفسها على «اليوتيوب».
«والموسيقى تُسّرع الزمن، تُسّرعه حد اللذة القصوى بالزمن»، حسب الأديب الألماني «توماس مان». وهذا زمان «بوران» التي سافرت لوحدها، وهي في التاسعة عشرة إلى لبنان، حيث درست على مدى خمس سنوات «البيانو» وعلوم الموسيقى «الموزيكولوجي» في جامعة «الكسليك» اللبنانية، وتدّبرت عيشها بتدريس العزف على «البيانو»، لأن والدها -كمعظم موظفي كردستان- استقطعت حكومة بغداد مرتَّبه، فما عاد يغطي سوى رسومها الدراسية وأجرة السكن. وفي لبنان، حرّرها شغفها بالغناء «الكورالي» (الجوقة) من وحدة عازف البيانو، وفتح لها الطريق للمساهمة في حفلات «الكورال» ببيروت ومسقط ودبي، حيث فاز فريقها بالجائزة الأولى. والتحقت بدراسة الموسيقى في أبرز معاهد جامعة «ماكغيل» في «مونتريال» بكندا، حيث أنهت في سنتين دراستها العليا، وغنّت وعزفت في أهم مسارح كندا والولايات المتحدة، بينها قاعة «كارنيغي هول» في نيويورك، وغنت «الكورال» مع أبرز الفنانين العالميين، كالإيطالي «أندريه بوتشيللي»، والألماني «هانز زيمر»، والإيراني الألماني «رامين جوادي» (مؤلف موسيقى المسلسل التلفزيوني العالمي «لعبة العروش»). وتدير «بوران» حالياً 52 كونسرت موسيقى كلاسيكية سنوياً في أهم مسارح «مونتريال»، وتعمل في تسويق «أوركسترا مكغيل لموسيقى الحجرة»، وتعزف ثنائي بيانو مع عازفة تركية، موسيقى من الشرق الأوسط لتعريف العالم عليها.
وتَجَوهرت «بوران» في منجم والدها «محمد عزيز زازا»، وعنوان أطروحته للدكتوراه في جامعة «تشارلز» في براغ: «الكلاسيكية الجديدة في موسيقى القرن العشرين من خلال أعمال إيغور سترافينسكي»، وأطروحته الموسيقية في «كونسرفاتوار الدولة في براغ»، وموضوعها «رقصات كردية على آلة الغيتار».
«الأمة هي التي تبدع الموسيقى، وعمل المؤلف الموسيقي ترتيبها»، حسب الموسيقار الروسي «غلينكا». وأمة كردستان العراق الجميلة المجهولة تسكن «الهلال الخصيب»، حيث برع أبرز الفلاسفة وعلماء الرياضيات والطبيعة والطب في الموسيقى، وبينهم «الكندي» أول من تحدث عن الموسيقى لعلاج الأمراض، ووضع خمسة كتب في اللُحون والنغم، وصنعة العود، والتأليف، والمصوتات الوترية. وعالم الطب «ابن سينا» الذي كان يقول «خير تمارين العافية الغناء»، وكان يدرس القدرة العلاجية للموسيقى. والفيلسوف «الفارابي»، مؤلف خمسة كتب عن الموسيقى، ومبتكر «الربابة» أصل آلتي «الكمان» و«الغيتار». و«الأصفهاني»، مؤلف موسوعة «الأغاني» الزاخرة بذكر نجوم الغناء والموسيقى، قبل وبعد الإسلام. وبينهم أيضاً «إسحاق الموصلي» و«زرياب»، وأشهر المغنيات «عريب» التي ولدت في بغداد، ووضعت شعرَ وموسيقى ألف أغنية، والتي يصنِّفها «الأصفهاني» بين المغنيات الأسطوريات المعروفات باسم «الحجازيات»، ومنهن منافستها «شاريه»، و«دنانير»، و«أم الخال».
و«هدف الموسيقى أن تمس القلب»، قال ذلك «باخ» أشهر الموسيقيين العالميين. وعندما نبحث في «اليوتيوب» بالإنجليزية اسم «بوران زازا» BORAN ZAZA تهزّ قلوبنا معزوفاتها على البيانو موسيقى «باخ»، و«بتهوفن»، و«رحمانينوف»، و«خاتشادوريان».. ويثملنا عزفها مقطوعة «الثمل» HIGH للموسيقي الكوري «مايكل كيم شينغ»، وهي من الموسيقى الإلكترونية التجريدية، حيث تتداخل علوم الموسيقى والرياضيات، ويترافق عرضها عادة بمشاهد فيديو تُصّور الكون، أو أعماق الذرة. ويأخذنا عزف «بوران» إلى ما وراء الكون، وباطن الذرة، إلى حيث قال الفيلسوف الفرنسي سارتر: «قرّرتُ أن أفقد القدرة على الكلام وأن أعيش في الموسيقى».