لفت نظري مؤخراً وأنا أقرأ بعض الموضوعات حول مياه النيل، وأبعادها الدولية، أن الصراع حول المياه كان وراء تكوين الإمبراطوريات وتفككها، أو إحلالها بحالة الدولة الوطنية، ولو استعمارية. وتمثل لي ذلك بحالة الإمبراطورية النرويجية والإمبراطورية البريطانية. جاءت هذه الالتفاتة بقراءة في كتاب «النيل..في العصر البريطاني» تأليف المؤرخ النرويجي «تريا تفيدت» (600 صفحة)، وترجمة سعد الطويل، والتحرير التاريخي لداليا سعد الدين، ونشر عام 2018. وقد بدا لي المؤلف ملتزماً بقدر كبير من الحياد، مثل الموقف الذي تتخذه بلاده في أحيان كثيرة. وقد كانت النرويج إمبراطورية بين القرن الرابع عشر حتى السابع عشر، تقوم على التوسع في البلاد المجاورة (الدانمارك والسويد) كما تعتمد على امتداداتها في شكل بقع ساحلية، أو قل تجارية بحرية تحميها تكوينات الفايكنج القراصنة في طرقها إلى بقع (قلاع) في غانا وزنجبار وموزمبيق وجنوب أفريقيا وكينيا والكونغو. وكانت تنشئ المزارع حولها، كما كانت تنقل العبيد إلى الشاطئ المواجه في الأطلنطي، باعتبارها دولة بحرية أو إمبراطورية مائية.
الملفت هنا أولاً أن هذه الدولة الإمبراطورية بكل هذا الانتشار، فقدت سلطتها المباشرة على ما سمي ‏non?» ?«Colonial Colonials? ? وكأن ?ترجمتها «?مستعمرات ?غير ?مستعمرة...!» ?بسبب ?استيلاء ?الاستعماريين ?الأصلاء ?على ?كل ?هذه ?المناطق?. وقد ?أقفز ?بخلاصة ?هنا ?- ?ما ?زالت ?لشخصي- ?بأن ?تحول ?النرويج ?عقب ?ذلك ?لمجرد «?دولة ?وطنية» ?لم ?يجعلها ?تصرخ ?كحكام ?أو محكومين ?على ?اللبن ?المسكوب ?في ?تراث ?الإمبراطورية، ?وإنما ?لتصبح ?دولة ?في ?غاية ?الحداثة ?والتطوير، ?أو ?قل ?التقدم ?الذاتي ?بوسائل ?أخرى، والآن إلى كتاب «تريا تفيدت» عن «النيل في العصر البريطاني».
والعنوان بالإنجليزية داخل الكتاب كعنوان فرعي «الاقتصاد السياسي ومطلب القوة الاقتصادية»، وكأنه ينقلنا معه مباشرة إلى مقولته إن «دبلوماسية المياه في عصر الرأسمالية العالمية كانت دائماً، وأصبحت عالمية في عصر العولمة»...ولذا تنبه المؤلف مبكراً إلى عرض الصراع البريطاني ضد المشاركة الأميركية حول مياه النيل، ودول حوض النيل، قبل أن يتفجر الصراع – المعروف فقط - عقب الحرب الثانية، أو استقلال مصر والسودان...لأن بريطانيا اعتبرت أن ثمة تدخلاً أميركياً ضدها في مناصرة استقلال المستعمرات، وأنها حاولت السيطرة على دول ومشروعات حوض النيل لتحل هي محل بريطانيا في النفوذ غير الاستعماري المباشر. الغريب أن يرصد المؤلف ملاحظة مثل ميل بريطانيا لمعالجة مسائل مياه النيل على أساس تحركات استعمارية كلية مع دول النيل، أو ما أسماه النيل الجغرافي، أو الإمبراطورية الإستوائية، وذلك على أساس الاهتمام المكاني وليس الجغرافي، أو أي مقاربة ثقافية لمجموعة دول حوض النيل، بمعنى التعامل الفردي مع أقاليمه، وهي التي عالجت بها بريطانيا مشاكل السدود والمشروعات المائية لمواجهات منفردة أيضاً مع الأميركيين الذين سعوا بشكل شبه دائم لتكوينات جماعية في الحوض تحت نفوذها.
ومن هنا يرصد المؤلف في هذا الكتاب العلمي المدقق، المشاكل التي أحاطت ببناء سد «أوين» و«كاجيرا»، و«تانا»، و«جونقلي»، ومشروع «هيلا سلاسي» محطة للكهرباء في منطقة «بحر دار». ويحتاج عرض أنماط الصراع ونتائجه واختلافه مع الوضع الراهن إلى قراءات خاصة ومفصلة للكتاب لا تتوافر هنا المساحة الكافية لها وإنْ كانت الندوة التي أقيمت بالمركز القومي للترجمة بمصر، حيث شرح المؤلف فكره، ما وفر بعض هذه الفرصة المطلوبة. الملفت هنا أن الإمبراطورية البريطانية الغابرة لم تشأ أن تكون لمصر مصالح أو نفوذ في هذه المنطقة، فتقرأ تدخلها لوضع أقسى الشروط حول بناء «سد أوين» (49/1954)، ودفع أقاليم المنطقة للاعتراض في محاولة لتدفع مصر معظم التكاليف، بينما السد في إحدى مستعمراتها أوغندا، ودفعت مصر بالفعل، وكذا الحال في مشروع جونقلي المطروح منذ عام 1946 لتدفع مصر التكاليف والتعويضات، ولا ترسل إليه أي خبراء مصريين، فرفضته مصر، بينما راحت تطلب مجمل المصروفات المطلوبة لإقامة سد على بحيرة «تانا» وليس مشروع «هيلا سلاسي» في «بحر دار»..فترفض بريطانيا وإثيوبيا في النهاية.
أما المعركة البريطانية الأميركية حول السد العالي، فتأخذ حيزاً من الكتاب، عن رغبة كل منهما في تعويق استقلالية مصر في الشأن النيلي ومصالحها الاقتصادية ذات الطابع الاستقلالي أيضاً، رغم الميل الأميركي الأول لمساعدته ضد الموقف البريطاني، ولا يعوق اتفاقهما دخول السوفييت على خط الاقتراب من عبد الناصر للمساعدة بما تعتبره القوتان الأخريان «فتحاً سوفييتياً لأفريقيا»..
لكن المؤلف هنا يحاول بنصوص لا نعرف مدى صدقيتها للقول إن عبد الناصر كان موافقاً في البداية لمشاركة بريطانيا وأميركا في المشروع، ولكنه أحس تدريجياً بشروط الولايات المتحدة لموافقتها أن يدخل البنك الدولي شريكاً..وهنا اعترض عبد الناصر على هذه الإمبراطورية النيلية التي يريد الغرب إعادة إقامتها على حسابه. وعرض المؤلف هنا للحوار البريطاني- الأميركي جدير بالمتابعة، وقد استعمل المؤلف عنواناً طريفاً لهذه المنافسات هو «الإمبريالية القديمة في مواجهة المناقصات الرأسمالية»...! ما أدى بوضوحه إلى أن يلجأ عبد الناصر مباشرة للسوفييت لتنفيذ مشروع السد.
من هنا اتجه الأميركيون إلى مساعدة البريطانيين في خلق مسميات لمشروعات جديدة تجمع المنطقة، وتعزل عبد الناصر حتى تهديده بحجز المياه عند خزان «أوين» بإقامة ما سمي أولاً بلجنة «النيل» لكل أماكن مواجهة ناصر ثم «هيئة مياه النيل»...وهكذا يكشف العرض السابق عن جذور «مشروع اللجنة الفنية للنيل ثم مبادرة حوض النيل حتى اتفاقية عنتيبي عام 2010».
في النهاية نحن أمام كتاب يكشف عن صراعات ومشروعات إمبراطوريات المياه القديمة في شكلها الاستعماري وتحولاتها مع التطور الرأسمالي العالمي إلى أنماط حديثة من العولمة..
ولا بد أن يُقرأ هذا الكتاب مع كتاب آخر تمت ترجمته عام 2010 عن «نهر النيل..مشاركة في مورد نادر»، «تأليف نخبة متميزة من بلاد الحوض وخارجه في مقدمتهم د. رشدي سعيد وتحرير «بي. هاويل» و«جى. ألان»، ويتميز بالعرض التفصيلي لمواقف دول الأقاليم، والتقارير الاقتصادية والقانونية في تسعة عشر فصلاً، ليحيطنا بدوره بكثير من أبعاد التحرك في الإقليم في هذه المنطقة التي أصبحت جزءاً من الإمبراطوريات العالمية والإقليمية الحديثة من أجل المياه.