يثير إعلان الرئيس دونالد ترامب في 20 أكتوبر الماضي اعتزام إدارته الانسحاب من أحد أهم الاتفاقات التي أسهمت في وضع حدٍ لسباق التسلح في العالم، جدلاً حول مستقبل هذا السباق إذا انفلت من عقاله مجدداً، وعاد إلى ما كان عليه في مرحلة الحرب الباردة. فقد لعبت «معاهدة القوى النووية متوسطة المدى» التي وقعها الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان ورئيس الاتحاد السوفييتي السابق ميخائيل جورباتشوف، في ديسمبر 1987، دوراً مهماً في ضبط سباق التسلح على مدى ثلاثة عقود. ولم يقتصر ذلك على السلاح النووي، بل شمل الصواريخ التقليدية أيضاً ما دامت قادرة على حمل رؤوس نووية. وترتب على تلك المعاهدة تخلص الطرفين من الصواريخ البالستية والجوالة ذات المدى المتوسط (بين 500 و5500 كم). وكان التزام الطرفين بهذه المعاهدة كاملاً، لأنها تُعد من المعاهدات النموذجية من حيث آليات التحقق من هذا الالتزام. فقد أتاحت التفتيش المتبادل، ومنحت كلاً من الطرفين الحق في تفقد أراضي الآخر، وتضمنت آلية لتبادل المعلومات والتنسيق.
لكن هذا لا يعني أن الأمور مضت على ما يرام طول الوقت. ظهرت شكوك من هذا الطرف أو ذاك في أوقات مختلفة، خصوصاً من جانب الولايات المتحدة بشأن مدى الالتزام بها. لذا يبدو الاتجاه إلى تحميل جون بولتون مستشار الأمن الأميركي الحالي المسؤولية عن إقناع ترامب بالانسحاب من الاتفاقية غير واقعي، أو مُبالغاً فيه، لأن المشاكل التي واجهتها سابقةٌ على توليه هذا المنصب.
صحيح أن بولتون يُعد من الصقور الأميركيين في مجال سباق التسلح، ومن أكثر السياسيين الذين يرفضون الاتفاقات المتعلقة به، ويرون أن هذا السباق في مصلحة الولايات المتحدة لأنه يُضعف قدرات خصومها الاقتصادية أكثر مما يؤثر في إمكاناتها. كما أنه يبدو أكثر مستشاري الأمن القومي نفوذاً وتأثيراً منذ أن شغل هنري كيسنجر هذا المنصب بين 1969 و1972، قبل أن يتولى وزارة الخارجية.
غير أن الشكوك الأميركية في انتهاك روسيا المعاهدة كانت متكررة في السنوات الأخيرة منذ أن تبين سعي الرئيس بوتين لاستعادة النفوذ الدولي لبلاده. وتكررت اتهامات واشنطن لشريكتها في المعاهدة بأنها تخرق بعض بنودها. وكان آخرها قبل أشهر قليلة عندما نشرت روسيا المنظومة الصاروخية طراز (9 إم 729)، على أساس أن مداها يتجاوز 500 كم.
كما اتُهمت موسكو في يوليو 2014 بأنها اختبرت نموذجاً أولياً لصاروخ بالستي عابر للقارات، وقال الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض حينئذ، جوسن إرنست، إن الرئيس أوباما حذر بوتين، في رسالة إليه، من مغبة انتهاك المعاهدة. وأُجريت، عقب تلك الرسالة، محادثات بين الطرفين، كما اعترضت واشنطن على مشروع روسيا لبناء منظومة صواريخ عابرة للقارات تستطيع اعتراض أنظمة الدفاع الأميركية للصواريخ، وأهمها صاروخ إسكندر المخصص لمواجهة نظام الدرع الصاروخية في بولندا عن طريق منظومة مركزها منطقة كالينينجراد.
وكان رد روسيا المتكرر، ومازال، أنها لا تنتهك المعاهدة بل تتخذ إجراءات دفاعية رداً على نشر الولايات المتحدة منصات إطلاق صواريخ «إم-كى 41» على أراضى رومانيا وبولندا.
وهكذا، يبدو أن الخلاف على الدرع الصاروخية الأميركية الموجودة قرب الحدود الروسية خلق توتراً دفع روسيا إلى إنتاج صواريخ تدخل في إطار الأسلحة التي تنص المعاهدة على منعها. وليس مستبعداً أن تكون المؤسسات الأميركية المعنية بالدفاع والأمن القومي والسياسة الخارجية، أو بعضها، خططت للوصول إلى وضع يؤدي لإلغاء المعاهدة التي كبحت سباق التسلح لثلاثة عقود، سعياً لاستئنافه، وأملاً في استنزاف قدرات روسيا على نحو يؤدي إلى إضعافها والحد من نفوذها الآخذ في التوسع. ويأتي دور بولتون ضمن هذا الإطار، بمعنى أنه ليس دوراً منفرداً، لأنه يسعى لخلق ظروف تدفع واشنطن للانسحاب من معاهدة 1987.
غير أن هذا ليس العامل الوحيد الذي أتاح توفر هذه الظروف، إذ يتعذر إغفال أهمية القلق الأميركي من استمرار الصين في حشد قوة عسكرية كبيرة وتطورها في غرب المحيط الهادئ، مما يضع قوات الولايات المتحدة البحرية في وضع صعب يفرض تطوير صواريخ بالستية جديدة من النوع الذي تحظره المعاهدة المهددة بالإلغاء ما لم يتفق طرفاها على صيغة تقبلها إدارة ترامب وتتيح استمرار العمل بها.