يوجد اتفاق على أن الذكاء الاصطناعي بمنزلة الإعصار أو التسونامي الذي سيُغيِّر كوكبنا، ولن يترك مجالاً من المجالات إلا ويُحدث فيه أثراً، وسيجعل الكثير من المسلَّمات التي تعارف عليها البشر عقوداً طويلة محل جدل ونقاش، وليست السياسة ببعيدة عن دائرة تأثير هذا الذكاء الاصطناعي، سواء على مستوى العلاقات بين الدول، وتوازنات العلاقات الدولية وتفاعلاتها بشكل عام، أو على مستوى السياسات الداخلية، وآليات صنعها وممارستها وطبيعة الأطراف الفاعلة فيها.
فعلى مستوى تأثير الذكاء الاصطناعي في السياسة الداخلية لا يمكن الحديث عن جانب واحد لهذا التأثير، وإنما هناك جوانب مختلفة، بعضها سلبي وبعضها الآخر إيجابي، وهو أمر يحتاج شرحُه إلى دراسات ضخمة ومعمَّقة، لكنني سوف أحاول عرض الخطوط العامة أو الرئيسية له باختصار كالآتي:
أولاً: تمنح تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المواطن العادي دوراً أكبر في التأثير في السياسة العامة، من خلال ما تتيحه له من بيانات ومعلومات ضخمة، وما توفره له من قدرة كبيرة على مراقبة العمل الحكومي، والكشف عن أي وجه من أوجه الفساد أو الانحراف فيه، فضلاً عن ممارسة الضغط على الحكومات من خلال ما يمكن أن نطلق عليه «الحشد الإلكتروني» ضدها الذي توفره المنصات الإلكترونية التي يزيد التطور التكنولوجي في مجال الاتصال من صعوبة حجبها أو السيطرة عليها من قبل الحكومات. وهذا يعني أن المؤسسات التي تقوم تقليدياً ببلورة مصالح الناس وقضاياهم والتعبير عنها، وتنوب عنهم في الدفاع عن هذه المصالح، مثل الأحزاب السياسية والبرلمانات والجمعيات الأهلية وغيرها، سوف يتراجع دورها بشكل تدريجي، لأن المواطن أصبح لديه قنوات وآليات أخرى لطرح أفكاره والدفاع عن مصالحه توفرها له التكنولوجيا الحديثة، وفي مقدمتها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
مفهوم الحكومة المفتوحة
وفي السياق نفسه، فإن الذكاء الاصطناعي يعزز مفهوم الحكومة المفتوحة «Open Government»، التي تعني التوسع في نشر المعلومات الحكومية، وتعزيز مبادئ الشفافية التي تجعل الناس مطَّلعين أكثر على عمل الحكومة، ومشاركين في وضع الخطط والاستراتيجيات عبر أخذ أفكارهم ومقترحاتهم وآرائهم بشأنها في الاعتبار قبل إقرارها. ويكتسب مفهوم الحكومة المفتوحة اهتماماً دولياً ملحوظاً، خاصة في سياق مكافحة الفساد وتحقيق الشفافية المالية، حيث يتبنى هذا المفهوم صندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وغيرهما. وثمَّة مؤشر سنوي يُطلق عليه اسم «مؤشر البيانات المفتوحة» تصدره منظمة غير ربحية مقرها بريطانيا تطلق على نفسها اسم «المنظمة الدولية للمعرفة المفتوحة»، يرتب الدول المختلفة، من حيث مدى إتاحتها البيانات الحكومية المختلفة للجمهور. ولا شك في أن التطور التكنولوجي الكبير، خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، يُمكِّن الفرد من الوصول إلى كمٍّ أكبر من المعلومات، بعضها صحيح وبعضها الآخر خاطئ، ما يجعله قادراً على ممارسة ضغط أكبر على الحكومات من خلال المعلومات التي بين يديه، الأمر الذي يفرض على هذه الأخيرة مزيداً من الانفتاح عليه ومشاركته في معلوماتها على الأقل لمواجهة المعلومات غير الصحيحة التي يمكن أن يكون قد حصل عليها من مصادر أخرى.
تعظيم القدرة على صناعة القرار
ثانياً: يمكن أن يقدِّم الذكاء الاصطناعي مساعدة كبيرة إلى صانع القرار، أولاً لأنه يوفِّر له قدرة فائقة على تحليل أي حجم من المعلومات في وقت قصير وبدقة كبيرة، ما يعني فهمه لها بشكل أعمق وأشمل. وثانياً لأنه يتيح له قدرة كبيرة على التعرف إلى الأفكار والتوجهات الشعبية، وتحليلها، وتوقع مساراتها من خلال تحليل نشاطات الناس في وسائل التواصل الاجتماعي، أو في محركات البحث على الإنترنت، أو حتى هواياتهم وطرق حياتهم وقراءاتهم والموسيقى التي يستمعون إليها وغيرها، والوصول إلى نتائج سريعة ودقيقة تمكِّن صانع القرار من اتخاذ قراره على أساس معرفة دقيقة بما يفكر فيه شعبه. وثالثاً لأن الذكاء الاصطناعي يوفر لصانع القرار قدرة كبيرة على توقُّع مسارات الأحداث على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية من خلال برامج متخصصة، ما يساعده على اتخاذ القرار السليم، سواء في مجال السياسة الداخلية، أو الخارجية. ورابعاً لأن ثمَّة بحوثاً حول روبوتات يمكنها اتخاذ القرار بنفسها من خلال معطيات يتم تزويدها بها، وهذا يوفر لصانع القرار خيارات مختلفة في التعامل مع القضية أو الموقف أو الأزمة التي تواجهه، وقد بدأت الصين بالفعل الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في صنع القرار اعتماداً على التطور الكبير الذي حققه الذكاء الاصطناعي في مجال الألعاب الاستراتيجية مثل الشطرنج وتفوقه على البشر فيها. وخامساً لأن الذكاء الاصطناعي يساعد على وصول الرسالة التي يريد صانع القرار إيصالها إلى الشعب، بخصوص أي قضية، بسهولة وفاعلية من خلال تقنيات تستطيع أن توصل هذه الرسالة إلى كل شخص بسرعة، وبطريقة تتناسب مع مستوى تعليمه ووضعه الاجتماعي ومجال عمله، وهذا يحل مشكلة التواصل بين القمة والقاعدة التي تعانيها بعض الدول والمجتمعات.
توفير الوقت والمال
ثالثاً: تُسهِّل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي عمل القادة والمسؤولين، لأنها تتيح لهم من البرامج والتقنيات ما يمكِّنهم من المتابعة والرقابة، والتعرف إلى سير العمل، واكتشاف الأخطاء، ومعالجتها بدقة وسرعة كبيرتَين لا تتيحهما الآليات التقليدية المتبعة في هذا المجال، مثل الاجتماعات الدورية، أو الزيارات الميدانية، أو غيرها. وهذا يوفر الكثير من الوقت والجهد والمال للحكومات.
رابعاً: لكن في الوقت الذي تخدم فيه تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي صانع القرار، وتُسهِّل العمل الحكومي، فإنها تخلق منافسين وشركاء له في التأثير على صنع السياسة، في مقدمتهم شركات التكنولوجيا التي تملك تقنيات هذا الذكاء الاصطناعي، حيث سيصبح لها تأثيرها المهم على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية، ودورها في التدخل في الشؤون العامة، سواء كانت شركات وطنية أو خارجية، وبالطبع سيكون تأثير الشركات الخارجية أكثر خطورة، لأن الأمر يتعلق هنا بقضايا السيادة والمصلحة الوطنية، خاصة إذا تحولت هذه الشركات إلى أدوات في أيدي الدول التي تنتمي إليها لممارسة تأثير في سياسات الدول الأخرى وقراراتها أكبر بكثير من التأثير الذي مارسته وتمارسه الشركات متعددة الجنسيات.
مصادر الخطر
خامساً: خلافاً لما سبق يخلق الذكاء الاصطناعي الكثير من مصادر الخطر والتوتر التي يمكن أن تهدِّد الاستقرار الداخلي ومن ثم تزيد الضغط على الحكومات، حيث يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى التوسع في «أتمتة» الوظائف، ومن ثم التخلي عن العنصر البشري بدرجات مختلفة لمصلحة الآلات، وهذا يمكن أن يخلق بطالة تؤدي إلى توترات أمنية واجتماعية خطيرة. وإذا كان الذكاء الاصطناعي نفسه يخلق فرص العمل الخاصة به، فإن هذه الفرص تحتاج إلى عناصر بشرية لديها قدرات متقدمة، وهذا غير متوافر في الكثير من المجتمعات، وخاصة مجتمعات الدول النامية والفقيرة، كما أن الأمر يحتاج إلى تكلفة كبيرة لإعادة تأهيل العناصر البشرية الحالية للتوافق مع متطلبات الذكاء الاصطناعي. كما يساهم الذكاء الاصطناعي في اتساع خطر اختراق الأمن الوطني، فإذا كانت ثورة الاتصالات قد انطوت على اختراق لسيادة الدول بمعناها التقليدي، فإن الذكاء الاصطناعي، بما يتيحه من إمكانيات كبيرة للتجسس والتأثير في المجتمعات بأساليب مختلفة، يعمِّق أزمة اختراق السيادة، خاصة لدى الدول التي لا تملك هذه التقنيات.
التأثير على توازن القوى العالمية
أما على مستوى السياسة الدولية، فإنه يمكن الإشارة إلى جوانب ثلاثة لتأثير الذكاء الاصطناعي، أولها التأثير في توازن القوى العالمية، ومحددات القوة العالمية ومقوماتها بشكل عام، حيث يمنح امتلاك الذكاء الاصطناعي وتقنياته المتطورة الدولة قوة كبيرة وقدرة فائقة على التأثير في العالم، وممارسة النفوذ والهيمنة على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية وغيرها، ولذلك يرى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن «من سيقود الذكاء الاصطناعي سوف يحكم العالم». وهذا ربما يخلق توازناً جديداً للقوى على الساحة الدولية، خاصة أن هناك قوى كثيرة تستثمر بقوة في هذا المجال، في مقدمتها الصين وروسيا والولايات المتحدة الأميركية وغيرها، ومن هنا يرى الخبراء أن من سيتحكَّمون في العالم، خلال الفترة المقبلة، ليسوا من يملكون الأسلحة النووية، وإنما من يملكون تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
الصراع الدولي والصراع الدولي
وفي ضوء ما سبق يمكن فهم الاستثمارات الضخمة التي يتم توجيهها إلى هذا المجال على المستوى العالمي، التي غدت تفوق الاستثمارات في مجال التنقيب عن النفط، وفق تقرير «الذكاء الاصطناعي بدولة الإمارات العربية المتحدة»، الصادر عن وزارة الاقتصاد في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2018. وثانيها زيادة احتمالات الصراع الدولي، حيث يمكن أن يؤدي التنافس بين القوى الكبرى في العالم على الذكاء الاصطناعي إلى زيادة حدَّة الصراع بينها بشكل خطير، حتى إن «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية» الفرنسي قال، في نوفمبر 2017، إن الصراع الدولي حول الذكاء الاصطناعي ربما يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة. ولعل هذا ما يبدو بشكل خاص بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، حيث تخطط الأخيرة لتكون في المركز الأول عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي خلال السنوات القليلة القادمة، وأعلنت في الأول من يناير 2018 أنها تخطط لبناء مجمع كبير يهتم ببحوث الذكاء الاصطناعي باستثمارات تتجاوز ملياري دولار، على أن يضم نحو 400 شركة متخصصة بهذا المجال، ما يهدد القيادة الأميركية للعالم، وهذا يسبِّب قلقاً شديداً لدى الولايات المتحدة الأميركية، ما يفتح باب الصراع بقوة مع بكين خلال الفترة المقبلة، خاصة أن واشنطن تعمل على الكثير من البرامج حول استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري. وثالثها اتساع الاختلال في العلاقة بين الدول المتقدمة وغيرها من الدول في العالم، لأن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي توفر للدول المتقدمة قدرة أكبر على اختراق الدول النامية، أو الفقيرة، التي لا تملك مثل هذه التكنولوجيا، وضرب سيادتها، وفرض الهيمنة عليها من خلال برامج الذكاء الاصطناعي، التي تتيح لها قدرات أكبر على التجسس والحصول على المعلومات، والتأثير في أفكار شعوب هذه الدول وتوجهاتها. كما ستزداد الفجوة بين الدول المتقدمة وغيرها بشكل كبير، ما سيخلق احتقانات وتوترات بين الدول والشعوب ستؤثر سلبياً في السلام بالعالم.
تساؤلات جوهرية
وأياً ما كان حجم ومسار وطبيعة تأثير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في السياسة الداخلية أو الخارجية خلال الفترة المقبلة، فإن الأمر المؤكد هو أن هذه التكنولوجيا تطرح الكثير من الأسئلة الجوهرية أمام المسؤولين السياسيين والخبراء والمفكرين في مجال الاستراتيجية وعلوم المستقبل والأمن الوطني والعلوم السياسية بشكل عام أهمها:
1- كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في مفهوم الأمن الوطني؟ وهل المناهج والاقترابات والمفاهيم التي حكمت رؤيتنا لهذا المفهوم على مدى سنوات طويلة لا تزال صالحة في عصر الذكاء الاصطناعي وتغيُّر نوعية التهديدات والمخاطر ومصادرها وطبيعة الاستجابات لها؟
2- ما معنى السيادة في ظل الذكاء الاصطناعي؟ وهل سيظل هذا المفهوم محتفظاً بمعانيه ودلالاته الحالية؟ وما حدود التغيُّر الذي يمكن أن يلحق به؟ وكيف يمكن التعامل معه بما يحافظ على مصالح الدولة العليا؟
3- كيف سيؤثر الذكاء الاصطناعي في الدبلوماسية؟ وهل سنظل نمارس العمل الدبلوماسي بآلياته ومهامه الحالية، أم أن الذكاء الاصطناعي سيفرض آليات وأدوات ومفاهيم ومهام جديدة تحتاج إلى مهارات مختلفة، ومن ثمَّ تأهيل مختلف للدبلوماسيين وإعادة صياغة لطبيعة العمل الدبلوماسي ومهامه؟
4- هل ستظل الكليات والمعاهد والأكاديميات المعنية بالعلوم السياسية والأمن الوطني تُدرِّس المناهج الحالية نفسها للطلبة أم ستفرض عليها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تغيير مناهجها وأدوات التدريس فيها، حتى تكون مواكبة للتطورات الضخمة التي سوف تحدثها هذه التكنولوجيا؟
5- هل ستظل البرلمانات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني تمارس عملها، وتصوغ أهدافها، بالطريقة نفسها التي تتبعها اليوم، أم أنها قد غدت في حاجة ماسَّة إلى مراجعة شاملة لآليات عملها وفلسفة هذا العمل، حتى تستطيع مواصلة أداء دورها في تعزيز مصالح الناس والدفاع عنها، بعد أن وفرت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي للأفراد آليات بديلة لهذه المؤسسات والهيئات لتجسيد مصالحهم والتعبير عنها؟
ريادة إماراتية
وفي الوقت الذي تُعدُّ فيه دولة الإمارات العربية المتحدة من الدول العربية والشرق أوسطية الرائدة في مجال الاهتمام بالذكاء الاصطناعي، سواء من خلال وجود استراتيجية وطنية في هذا المجال، أو وزارة دولة للذكاء الاصطناعي، فإنه من المهم التعامل مع قضية الذكاء الاصطناعي، على المستوى الإماراتي، بصفتها قضية أمن وطني، لأن الأمر يتعلق بمستقبل الدولة، وموقعها في العالم، وقدرتها على صيانة أمنها ومصالحها، وهذا يحتاج إلى التنفيذ الجاد للبرامج الوطنية التي تم وضعها في هذا الخصوص، وفي مقدمتها «استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي»، فضلاً عن تفعيل دور وزارة الدولة للذكاء الاصطناعي. ومن المهم كذلك الدراسة المستمرة والعميقة لمختلف جوانب التطور في مجال الذكاء الاصطناعي، لوضع خطط التعامل مع الجوانب السلبية لهذا التطور، واستثمار الجوانب الإيجابية، ومراقبة التأثيرات المختلفة للتطور بمجال الذكاء الاصطناعي في توازنات القوى على الساحة الدولية.