مر نحو عام على تطبيق الرئيس الأميركي دونالد ترامب سياسته الحمائية.
اتخذت إدارته إجراءات عدة لرفع التعرفات الجمركية على عدد متزايد من السلع التي تدخل السوق الأميركية.
كما أعادت النظر في اتفاقات تجارية عقدتها إدارات سابقة مع عدد من الدول.
ولم يتوقف الحديث منذ ذلك الوقت عن حرب تجارية عالمية بعد أقل من ربع قرن على تأسيس منظمة التجارة العالمية ‏WTO، ?التي ?أُنشئت ?بهدف ?ضمان ?انسياب ?التجارة ?بأكبر ?قدر ?من ?الحرية ?والسلاسة ?بين ?مختلف ?البلدان.
الحديث عن حرب تجارية شائع من دون تحديد دقيق للأساس الذي يقوم عليه، الأمر الذي يثير سؤالاً لم يُطرح بعد عما إذا كانت النزاعات القائمة في مجال التجارة بين الولايات المتحدة، وبعض الدول الكبرى وصلت إلى هذا المستوى.
والحال أنه باستثناء النزاع الأميركي الصيني، يبدو أن هناك مبالغات في الحديث عن أزمة تجارية كبرى، ناهيك عن أن تكون حرباً بالمعنى الدقيق.
لا يكفي -أولاً- تصاعد الخلاف بين الولايات المتحدة والصين، واتخاذ كل منهما إجراءات حمائية تجاه الأخرى، للحديث عن حرب تجارية في العالم.
نجاح أميركا والمكسيك وكندا في التوصل إلى اتفاق لحل النزاعات التجارية بينها مطلع الشهر الجاري مؤشر جديد على ذلك.
ويُعد هذا الاتفاق تحديثاً لاتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية («نافتا»)، والمبرم بين الدول الثلاث عام 1994.
ويحمل الاتفاق المُحَدَث اسم «يوسمكا» ‏USMCA ?المستمد ?من ?الأحرف ?الرمزية ?الأولى ?للدول ?الثلاث.
وعندما ندقق في ما يسميه كثيرون حرباً تجارية، نلاحظ خلطاً بين مستويات الخلاف في العلاقات الدولية.
ولكن بعض من يتحدثون عن هذه الحرب يعتقدون بعدم وجود معايير للتمييز بينها وبين النزاع في حالة التجارة الدولية، بخلاف الحال على صعيد العلاقات السياسية.
ويستندون إلى أن السياسات والإجراءات الحمائية، التي تُعد السلاح الرئيس في الخلافات التجارية، تبقى جزئية دائماً، ولا يمكن أن تصبح شاملة لأنها تركز على سلع وخدمات محددة دون غيرها.
غير أن هذا ليس المقياس الوحيد للتمييز بين مستوى النزاع الذي نراه الآن في بعض الخلافات التجارية، ومستوى الحرب.
لدينا مقياس ثان يتعلق بأثر السياسات والإجراءات الحمائية.
النزاع التجاري يبدأ عندما تتخذ دولة هذه الإجراءات، ليس لحماية سوقها واقتصادها فقط، بل لردع دولة أو دول أخرى، وربما معاقبتها أيضاً.
وكلما ظل الأثر في حدود يمكن تحملها، يظل الخلاف عند مستوى النزاع القابل للحل أو التسوية من دون عناء كبير.
وكلما ازدادت شدة هذا الأثر، بدأ النزاع في التحول إلى حرب يستدعي وقفها جهداً أكبر.
ووفق هذا المقياس، مازال العالم عند مستوى نزاعات تجارية يُعد أهمها وأكبرها بين الولايات المتحدة والصين.
ولا يقل أهمية في هذا السياق – ثانياً- أن النزاع بين واشنطن وبكين ليس تجارياً فقط، إنه نزاع سياسي واستراتيجي أيضاً، وربما في المقام الأول.
والملاحظ أن لهجة الخطاب الرسمي الأميركي تجاه الصين تزداد خشونة منذ إعلان «استراتيجية الأمن القومي 2017» التي وُضعت بكين فيها ضمن مصادر التهديد الرئيسة، بل اتُهمت بأنها «تعمل بإتقان لإلحاق الضرر بالمصالح والقيم الأميركية». وقد بدا هجوم كل من نائب الرئيس الأميركي مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو، على الصين في الأيام الماضية غير مسبوق.
اتهم بنس الصين بأنها تسعى لتحقيق مكاسب وصفها بغير المشروعة، وقال إن سياستها الاقتصادية «تقوم على السلب، وتهدف لتحقيق الهيمنة، وإضعاف القاعدة الصناعية والتكنولوجية للولايات المتحدة»، لكن المهم في حديثه أن حملته على سياسة الصين التجارية والاقتصادية ارتبطت بهجومه على استراتيجيتها السياسية والعسكرية التي قال إنها تسعى لتوسيع نفوذها في شرق آسيا، وغرب المحيط الهادئ، والهيمنة على منطقة بحري الصين الجنوبي والشرقي، وتعهد بومبيو، بعده، بتشديد نهج إدارة ترامب الصارم تجاهها، إلى أن تغير سلوكها في المجالات التجارية والسياسية والعسكرية.
وهكذا، يصعب الفصل بين أنماط النزاعات المتزايدة في العلاقات بين واشنطن وبكين، الأمر الذي يعني أن ما يراه كثيرون حرباً تجارية ليس إلا جزءاً من نزاع أوسع آخذ في التوسع بين الدولتين، في الوقت الذي يبدو أن النزاعات التجارية بين الولايات المتحدة ودول أخرى، مثل كندا والمكسيك، والقوى الكبرى في الاتحاد الأوروبي، إما دخلت في طريق الحل، أو يتيسر حلها عبر تنازلات متبادلة.