ما أن نتناول مسألة العلاقة بين الغرب والشرق، حتى نجد أنفسنا في المحور الرئيس للمسألة، وهو ضبط العلاقة وتحديد نسيجها، ومحاولة الإجابة عن السؤال الأثير: أهي علاقة صراع أم علاقة حوار؟ لابد من تأريخ العلاقة بين الجانبين على مدار السنين الطويلة، وبالأخص منذ أواخر القرن الثامن عشر، ففي هذه المرحلة يمكن أن نضبط تاريخين اثنين، أحدهما يتمثل في ظهور الحضارة الغربية الرأسمالية منذ الإرهاصات الأولى للإعلان عن نفسها وجوداً اجتماعياً تاريخياً مُتجهاً إلى المستقبل، وطاقةً جديدةً تفرض نفسها على العالم في سياق تعاظم وجودها، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وثقافياً.
وهنا تتعين الاستعانة بعالِم الاقتصاد الشهير John Keynes، لنضع أيدينا على الإشكالية في واحدة من أهم مظاهرها، وذلك من خلال تركيزه على أهمية دور الدولة القوية في إنعاش النشاط الاقتصادي، لاسيما عبر زيادة إنفاقها على نحو كبير وشامل، وقوله إن الازدهار يبقى ضئيلاً إن لم توجد قوى حيوية فاعلة وعلى نحو منظم في دفعه إلى أمام.
وإذا انتقلنا إلى مستوى آخر تطورت فيه قضية «صراع الحضارات»، فسنلاحظ أن حدثاً مهماً شكَّل مهمازاً قوياً لهذه العلاقة، ألا وهو حرب العراق، والتي أتاحت للولايات المتحدة الأميركية أن تبدو بوصفها القوة العالمية الأعظم، والقادرة «على فرض إرادتها بغير حدود، خصوصاً إذا تعلق الأمر بمصالحها العليا» (جاك هيرش، صدام الحضارات توصيف إمبريالي، مطبوعات التضامن، القاهرة 1997). وانطلاقاً من ذلك أعلن بوش الأب قيام «النظام العالمي الجديد»، وخلافاً لهذا المنظور البوشي وما يقترن به، يقول روبرت كاجلان ما مفاده إن العالم مقبل على انهيار تام في السلطة السياسية بسبب التحركات السكانية واسعة النطاق والمقترنة بالأوبئة ولمشكلات البيئية.
وفي كتاب بعنوان «تأثير الإسلام على العصر الوسيط الأوروبي»، صادر في أوائل التسعينيات، كتب المؤلف ما يلي: «إن التأثير الثقافي للإسلام على أوروبا كان بشكل خاص نتيجة احتلال المسلمين لإسبانيا، والتي صارت مقاطعة من الخلافة الإسلامية، ما أسس لعمل أكثر اتساعاً على صعيد التأثير الإسلامي في أوروبا.
فقد امتد هذا التأثير إلى قطاعات متعددة، تشمل التكنولوجيا والكثير من الإنتاج الخاص بالزينة والجمال وصناعات الاستمتاع..
وبذلك أصبحت إسبانيا مثاراً لافتاً على هذا الصعيد وغيره». ويضيف الكتاب أن الإسلام أسهم في إنتاج صورة جديدة عن أوروبا عبر الإثارات والمسائل التي ناقشها وأوصلها إلينا نحو الأوروبيين، والذين دخلنا بفضله بوابة عصر جديد للعالم، بحيث يتعين علينا التعبير عن شكر خاص للعالم الإسلامي، كما للعرب في ذلك الأمر.
وهنا ينبغي الإتيان على مثال لا مناص من ذكره، هو ذلك المثال الذي قدّمه الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، والذي يضع الأمر في أيقونة من الروعة الفكرية والإنسانية العالمية، المثال الذي يمكن احتذاؤه على مر العصور في ما يجب أن يحدث من تطور بشري توصل إلى احترام الإنسان من حيث هو إنسان، وإلى التأسيس لعالم تتحقق فيه قيم الأخوة والمساواة والكرامة.
إن تباين البشر يمثل قيمة مثلى ينبغي أن تكون موضع توافق، وإن التأكيد على هذا التباين يجعل منه حافزاً بالمعنى الحضاري.
وهنا تواجهنا قضية علاقة الحضارات، وكيفية التعامل مع البشر على أساسها.
وقد يكون مثالاً دقيقاً وعميقاً أن ننظر في «العُهدة العمرية» كنموذج هائل الدلالة على تآخي البشر أياً كانوا وعلى الدعوة إلى احترام الحياة.
فالحضارة هي خلاصة البشرية في تطورها المفتوح، في مسار يتسيده «الإنسان» بقدر ما يتآخى مع أخيه الإنسان.
وهذا يعني التحدث عن الحضارات منظوراً إليها باختلافها وفي تآخيها أيضاً.