إذ كانت اللغة هي الوسيلة الرئيسية التي تربط بين الناس وبين أفكارهم، وهي الوعاء الذي يضم كل ذلك ويحتويه، فإن حركة الترجمة والنقل تساعد الأمم والدول على نهوضها وتطورها.. وهذا ما حدث خلال الكثير من التجارب العديدة التي نهضت من خلالها الأمة العربية، عندما تفاعلت اللغة العربية مع اللغات الأخرى كاليونانية والهندية والسريانية والفارسية وغيرها. فقد قدمت العربية للناس وسيلة كبيرة لمعرفة فكر الآخر وتراثه، حتى اتسعت مساحة هذا الفكر العلمي العربي بامتداد مساحة المنطقة التي كان يحكمها، ووصلت اللغة العربية إلى حدود الصين والمحيط الأطلسي، وحققت التأثير الإيجابي المطلوب.
لقد انتبه العرب في وقت مبكر إلى أهمية الترجمة، بدءاً من العصر الجاهلي وحتى صدر الإسلام. وقد ساعد على ذلك صلة العرب بالأمم المجاورة، مما كانت نتيجته اتصال العرب بغيرهم، إن دخلت، حسب الباحث طارق حسان، إلى اللغة العربية حصيلة ضخمة من مختلف اللغات ترجمها العرب وصاغوها وفق معاييرهم اللغوية.
وكانت أواخر القرن الأول الهجري هي بداية مرحلة النقل والترجمة على يد خالد بن يزيد بن معاوية حين أمر بنقل الكتب العلمية اليونانية إلى العربية. ثم بعد ذلك حدث ازدهار واسع للترجمة في عصر العباسيين في أواخر القرن الثاني الهجري حتى أصبحت بغداد مركزاً هاماً من مراكز الثقافة الإسلامية، حيث تم إنشاء «دار الحكمة» في عهد المأمون الذي أصبحت في عصره حركة الترجمة والنقل مؤثرة في حركة التطور.
ويذكر المؤرخون أن المأمون كان يساوم أعداءه ضمن معاهداته التي يعقدها معهم على اقتناء أو استنساخ كتب العلم، وأنه قام بذلك مع ملك الروم.
وهكذا انطلق سيل الترجمات التي أثرت الحياة الفكرية في مجتمع الدولة الإسلامية، حيث بدأ نقل كتب العلوم النظرية والعملية التجريبية.
ثم جاءت مرحلة الأندلس، والتي وصل فيها نشاط الترجمة إلى أعلى مستوياته. ولولا الحروب والغزوات والأحداث العديدة التي تعرضت لها البلاد الإسلامية في ذلك العصر، كما يشير كثير من الباحثين، لأصبح للعرب شأن آخر اليوم في مجالات التقدم العلمي. لكنهم توقفوا حتى بداية القرن التاسع عشر إلى أن افتتح محمد علي في مصر «دار الألسن» وجعل التعليم بأكمله باللغة العربية، حيث تسابق الأساتذة إلى ترجمة كتب الطب والنبات والحيوان والفلك والرياضيات والهندسة.. وبعد ستين سنة من هذه التجربة جاء الاستعمار الإنجليزي وأوقف التجربة، وحول التعليم من اللغة العربية إلى الإنجليزية.
ولعل أهم ما يميز عصر الترجمة ثلاثة أمور:
1- أن الترجمة لعبت دوراً رئيسياً في قيام حضارة علمية عربية إسلامية عالمية.
2- أن الترجمة لم تتوقف عند مجرد النقل والاقتباس، بل قامت العقول العربية المسلمة بإعادة تشكيل تلك العلوم، وأضافت إليها الكثير من الإبداعات والابتكارات، وتوصلت إلى العديد من النظريات والأفكار العلمية.
3- أن اللغة العربية استطاعت من خلال الترجمة أن تثبت جدارتها وقوتها وعظمتها كلغة عالمية تستوعب كل الثقافات.
لذلك نرى أنه يتعين اليوم إعطاء اهتمام كبير لمسألة الترجمة، فهي مهمة لإغناء الفكر، وتعزيز البحث العلمي، وتعريب التعليم، وتنمية اللغة العربية، وتعريف المواطن العربي بقضايا عصره ومشكلاته الفكرية والمعرفية والتقنية.