الخبر يقول إنه في أول اجتماع لمجلس الوزراء البريطاني بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي خرجت منها بريطانيا منتصرةً بعد هزيمة ألمانيا النازية، سأل تشرشل (رئيس الوزراء البريطاني حينذاك) زملاءه الوزراء عن حال ثلاثة قطاعات رئيسية في المجتمع البريطاني، هي القضاء والتعليم والإعلام. وعندما أخبروه أن هذه القطاعات الثلاثة بخير، كان تعليقه أن مستقبل المجتمع، وليس فقط حاضره، بخير.
لا شك في أن القطاعات الثلاثة مهمة، لكني أرى أن الإعلام قد يكون أهمها، بالطبع استقلال القضاء وتأثيره في المجتمع أساسي، وبالطبع فإن تعليم النشء أساسي أيضاً، فهم ركيزة المجتمع.. لكن الإعلام أصبح في زمن العولمة والتقدم التكنولوجي المذهل يحظى بأهمية كبيرة ويمكن أن نسميه «التعليم الدائم والمستمر»، الذي لا يقتصر تأثيره على قطاع أو فئة عمرية، فهو يغزو غرف النوم، ويؤثر على الأطفال، كما على الكبار، نساءً ورجالاً. لقد أصبح أكثر من «سلطة رابعة». إن الإعلام يُحدد الأجندة، وهي من أكبر عناصر القوّة بالنسبة لأية دولة، داخلياً وخارجياً. وقد اشتكى لي دبلوماسي أجنبي من أن رئيسه يقرأ «نيويورك تايمز»، ثم يوجه الوزارة كيف تحدد وتنفذ أولوياتها! كما أن الإعلام عندما يقوم بتعريف بند أو موضوع بطريقة معينة، أو ما يسمى Framing، فإنه يحدد طريقة التفكير في هذا البند ويوجه البحث والإجابة في طريق معين.
ويزداد ذلك التأثير حالياً بسبب قوة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي (أو إعلام المواطن)، حيث أصبح تأثير العالم الافتراضي يزيد على تأثير العالم الحقيقي أو واقع الفعل نفسه.
ولنفكر مثلاً حول ما يحدث الآن فيما يتصل بموضوعات مثل: المثليين في العالم الغربي، ومآلات الحركة النسوية، وصورة المسلمين في الغرب.
لقد أصبح العالم الآن في وضع غريب فعلاً، حيث يتم تغيير المعتقدات، والسلوك أيضاً، وذلك دون تجربة شخصية. لقد ازدادت قوّة الإعلامي أو من يقوم بتوصيل الرسالة، تأكيداً للنظرية القديمة حول تأثير «الحقنة» أو المسدس: أي التأثير الذي يأتي من الخارج ولا يستطيع المتلقي مقاومة أثره.
ورغم ذلك فثمة بندان على الأقل لم يحظيا عالمياً بعد بالاهتمام المطلوب:
أولهما: العلاقة بين الإعلام والتراتبية الدولية، أو عدم المساواة، سواء بسبب المستوى المختلف في التكنولوجيا أو الموارد المتاحة. وفي سبعينيات القرن الماضي اهتمت منظمة «اليونسكو» ببعض جوانب سيطرة الإعلام العالمي كنوع من «الاستعمار الجديد»، لأن هناك فرقاً كبيراً بين تأثير «رويترز» أو «الأسوشيوديتبرس ومثلاً وبين وكالة أنباء تنزانيا أو تونس. ويبدو أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي لم يحقق المساواة في هذا المجال، إذ ليس كل مواطن في اليمن أو الجزائر لديه كمبيوتر وإنترنت ويستطيع التخاطب باللغة الأولى لهذا التواصل، أي الإنجليزية.
ثانيهما: أن بعض أجهزة الإعلام العالمي تقدم نفسها على أنها صوت الضمير العالمي، لكن هل إعلاميو هذه الأجهزة ملائكة فوق الترهيب والترغيب؟ منذ عام تقريباً طردت جريدة «الإنبدنت» أحد مراسليها لأنه اخترع مقابلة صحفية مع محاور وهمي. الإعلاميون ما هم إلا بشر، قد يرتكبون أخطاء أو يقعون ضحية للإغراءات، شخصيةً كانت أو مالية. ما هي إذن الوسيلة التي تضمن ألا تكون مميزاتهم وحقوقهم فوق القانون، بل تتم محاسبتهم إذا لم يحترموا القواعد المهنية والأخلاقية، وهي مطلوبة منهم خاصة لأن تأثيرهم الفوري -شعبياً وعالمياً- أقوى بكثير من قطاعات التعليم والقضاء؟