كثر الحديث من قبل كتاب وباحثين ومفكرين عن احتمال سقوط «النظام الرأسمالي»، الذي جلب مآسي هائلة، مع أنه أسهم في تحول عالمي تضمّن تطويراً ضخماً للحياة البشرية، لكن بالتوازي والتداخل مع إرث ترك ويترك كماً هائلاً من استغلال البشر والشعوب، خصوصاً في العالم الثالث. إن الحديث بهذا الاتجاه جاء أيضاً في سياق مسألة «حوار الحضارات». والشيء اللافت في ذلك أن هذا الأمر يأتي على ألسنة علماء ومفكرين غربيين، ما يعني أن العالم كله تقريباً أخذ يمر بمثل هذه الأحوال التي تخترق العالم الرأسمالي نفسه، إضافة إلى عوالم الشعوب الأخرى، ما يشير إلى تحول عالمي جديد شامل. فإذا كان السؤال قد صيغ في السابق على النحو الآتي: هل يوجد حوار أم صراع بين الحضارات؟ فهو الآن يقدم نفسه بصيغة أخرى: أما زال العالم الرأسمالي قادراً على أن يكون طرفاً في حوار الحضارات؟
هكذا انطوت صفحة لنواجه صفحة أخرى جديدة: من النظام الإقطاعي، إلى الآخر الرأسمالي، وها هنا نواجه حالة جديدة ذات بنية جديدة ووظائف جديدة أكثر انفتاحاً وعصرية، حيث يتضح أن التغير في العالم الرأسمالي الجديد يتمظهر في حالة جديدة.
نحن هنا نواجه مطامح الصعود إلى الأعلى والتقدم إلى الأمام. فهذا «الأمام» مفتوح ونسبي، كما يخبرنا الباحث «أولريش شيفر»، الذي وضع يده على إمكانية الخلل في ذلك «الأمام»، وقد تحدث عن تلك النافذة التي يستطيع البعض الخروج منها، تأكيداً على أن النظام الرأسمالي ذو خروق ونوافذ يستخدمها، بل يستغل استخدامها في سبيل التأكيد على أن البناء «الرأسمالي» نفسه قابل للاختراق على نحو يسمح لمجموعات أن تخترق النوافذ. وبتعبيره هو: «إن مجتمعنا الذي ينطوي على نوافذ يستطيع البعض المروق من خلالها نحو الأعلى، لا تزال فيه نوافذ يسقط منها كثيرون نحو الهاوية».
ويعلق «شيفر» على عالم الاقتصاد البريطاني «جون ماينارد كينز» الذي يحلل كنز المضاربة ويصفها بأنها «موضوع له علاقة بالغرائز الوحشية في المقام الأول». ويؤمن كينز إيماناً أكيداً بأهمية الدولة القوية لوضع حد للكساد ولإنعاش النشاط الاقتصادي، وقد كان على ثقة بإمكانية تفسير الكساد الكبير من خلال النظريات الليبرالية.. «فالاقتصاد يصل إلى حالة التشغيل الكامل فقط في حالة ارتفاع الطلب السلعي إلى المستوى المناسب.. والدولة مطالبة بزيادة إنفاقها في فترات الكساد».
ما قدمناه يشير إلى أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود. فالنظام الرأسمالي، كما هو منذ مراحله الأولى، إضافة إلى بيئة تحتمل الكثير من الخروقات.
إنَّ ذلك مجتمِعاً يعيدنا إلى سؤال الحضارة وإمكان استمراره في مرحلة إخفاق السوق المحررة من الضوابط التي تحافظ على أنساق قابلة لإعادة الإصلاح من موقع المصالح المشتركة بين أصحاب المشاريع الرأسمالية والمجتمعات التي تحرص على الاحتفاظ بمصالحها، والتي تحقق لها حدوداً من العدالة والتجدد والتقدم.
ولعلنا نعود إلى الفكرة المركزية المتمثلة في «إخفاق السوق المتحررة من القيود»؛ مع الإشارة إلى أن النظر إلى وراء وتدقيق ما تحقق وما لم يتحقق من الأهداف الاستراتيجية، يبقى ضرورياً.
إنَّ دور كينز لم يجد فيه الرأسماليون ما يصبون إليه، وهذا يعني أن الأزمنة القادمة قد تقدم دروساً أكبر وأهم حول دور الاقتصاد المحكوم بالعديد من الضوابط، ومنها: النظر إلى حالة الإخفاق التي يقع فيها السوق المحررة من الضوابط، وعلى هذا النحو يستخدم «قادة» الرأسمالية الطرق التي يعتقدون أنها تعيد بناء حيواتهم، من دون أن يكتشفوا أن العلة الأساسية هي المتمثلة بإخفاق السوق المحررة من الضوابط وعوامل أخرى.
ويبقى القول ضرورياً بأنه يمكن أن تتلمس حدوداً مناسبة للعدالة والرفاهية لأكثر العاملين، مع الحفاظ على ما قدمه كينز.