وفاة المشيرعبدالرحمن سوار الذهب، رحمه الله وأحسن إليه، تدفع النفس إلى نوع من الشجن الخاص، وإلى تأملات تذهب بالمرء إلى أبعاد تمتزج فيها الشجاعة بالسياسة، والصدق بالنزاهة، ومعرفة أحوال الدنيا بالفكر في أبهى تجلياته، فالرجل الذي رحل عنّا لم يكن عادياً في مسيرته التاريخية التي أكسبته محبة الناس من حوله، سواء من عرفه عن قرب، أو سمع به من الرواة ونقلة الأخبار.. محبة الناس تلك، أسبغت على شخصه شيئاً من الأسطورة، والسبب وراء ذلك، أنه برز وتميّز في جغرافيا العالم الثالث، الذي اشتهرت شعوبه في انتظار الفرد المنقذ، يأتي ليخلِّصهم من مآسيهم وعذاباتهم. لكن ما أن يأتي هذا القائد المخلِّص الذي حرقوا أعمارهم في نار انتظاره، سرعان ما يرغمهم، وبالقوة، على تقديسه، إلاَّ المشير، الذهب، لم يفعلها، فبعد أن عُرضت عليه رئاسة البلاد لفترة انتقالية، وكان وقتها وزيراً للدفاع، تردد كثيراً في قبولها رغم الضغط الكبير لانتفاضة 1985 الشعبية، إضافة إلى توافق قادة الجيش الكبار، قبلَ رئاسة السودان، لكن حددها بعام واحد فقط، يصار خلاله إلى إجراء عملية نزيهة للانتخابات. وهذا ما حصل، ترك السُلطة فور إعلان نتيجة الانتخابات. رحل سوار الذهب تاركاً لنا غصّة في الحلق، طعمها أقرب ما يكون إلى المعدن، فبعد أن تفاءلت شعوب العالم الثالث، بتكرار نموذجه في تداول السُلطة، ونزاهته في إدارة شؤون الدولة، وتعميم هذا النموذج بالخصوص في بلدان آسيوية وأفريقية، أو في الأقل، تفاءلنا ببقائه حياً بيننا لفترة أطول، للاستفادة من خبرته في حياتنا التي تصوغ جوانب منها، أنظمتنا السياسية، الرشيدة منها على قلتها، وغير الرشيدة على كثرتها، حياتنا التي أصبحت لدى بعضنا مصدر خوف بسبب من غموضها أحياناً، وأحياناً أخرى بسبب صعوبة فهمنا لمستجداتها. يرحل عنا سوار الذهب، والموت لا قبل لنا به فهو سنة الحياة، بيد أن مكمن الألم دائماً ما يكون في الفقد، في الغياب المفاجئ، الحصاة التي تعكر صفو الحياة. في سياق مُتصل، ملتُ نحو صاحبي البريطاني في مقعد الطائرة، هامساً: ثمة عزاء. قال في ماذا وأين؟ قلت في الفضاء الأفريقي الذي نمثل فيه نحن العرب 25?، و75? الباقية منا في آسيا، في هذا الفضاء، هنالك جائزة خصصها الاتحاد الأفريقي لـ(الحكم الرشيد) في كافة الدول الأعضاء، تشجيعاً لمن يكون في السُلطة ويرفع من شأن القانون في استخدام صلاحياته، ثم في قراراته مع شعبه، كما أن الاتحاد الأفريقي منع الاعتراف وبالمطلق، بأي نظام يأتي إلى السُلطة عبر انقلاب عسكري في أي بلد أفريقي عضو. إن أفريقيا الحديثة والمنفتحة على العصر، مُقبلة تدق أبواب العالم، لا يفصلها عن اللحاق به سوى قفزة قويّة أو قفزتين. وما عدا إضاءات لامعة ومحدودة في الخليج، ومعها قلة من الدول، تبقى حال بلداننا العربية في دائرة (مكانك راوح)، أو في أحسن الحالات، تكون في حالة زحف بطيء، ينطبق عليها قول القدماء: لا سريعٌ فيُرجى ولا ميت فيُرثى. لكن ترى، ما السر في أن أغلب رؤساء العالم الثالث، إلاّ من رحم ربي - وسوار الذهب أحدهم - ما السر أنهم يلتصقون بكرسي السُلطة، لا يريدون منه انفكاكاً، مخالفين بذلك حتى ما نص عليه قانون مانع، هم من شاركوا بوضعه؟ لا تدري ما المتعة في هذه المهنة التي يكاد قلقها يهدّ الجبال. لكن ربما نجد لدى ابن خلدون ما يبرر هذه الظاهرة الشرقية (إن سُكر السُلطة أقوى بكثير من سُكر الخمر).