تُعد وزارة الخارجية، لأي دولة، لسان حالها وصورتها أمام العالم، وقبل معرفة وزارة الخارجية الحديثة، كان المبعوثون يقومون بمهامها، لذا كان الخلفاء والملوك والسَّلاطين يعتمدون الشخص المقتدر في المحادثات، القادر على الإقناع. كتب ابن الفراء (ت 526هـ) في صفات المبعوث ومؤهلاته، نقلاً عن وصية حكيم لأحد الملوك: «اختر لرسالتك، في هدنتك وصلحك ومهمَّاتك ومناظراتك والنيابة عنك، رجلاً حصيفاً، بليغاً، حُوّلاً قُلَّباً (يقلب الأمور ويحتال الحيل)، قليل الغفلة منتهز الفرصة، ذا رأي جزل، وقول فصل، ولسان سليط، وقلب حديد، فطناً للطائف التدبير ومستقلاً لما ترجو أو تحاول بالحزامة وإصابة الرأي» (رسُل الملوك ومَنْ يصلح للسفارة).
ذكرنا ما تقدم، بمناسبة قدوم العراق على تشكيل حكومة جديدة، فلابد أن يُنظر بدقة لمَن يُكلف بوزارة الخارجية، والنظر إلى وزراء عظام مثَّلوا العراق في المحافل الدولية أحسن وأرقى تمثيل، وفي مقدمتهم محمد فاضل الجمالي (ت 1997)، الذي وقَّع باسم العراق على «ميثاق الأمم المتحدة» (1945)، وكان موظفاً كبيراً في الخارجية. فبعد السنوات الأربع الأخيرة التي مثلها، آخر وزير خارجية، إبراهيم الجعفري، لم يُقدم الصُّورة التي يجب أن يمثل فيها بلاده، لذا عُدَّ من أضعف وزراء الخارجية العراقيين على الإطلاق، فالرجل كان في وادٍ ومهام الخارجية في وادٍ آخر، لا يميز بين محفل دولي أو إقليمي ومحاضرة كان يُلقيها على مجموعة متدينة مِن أتباع حزبه، أو موعظة في مجلس، فلم يستطع مغادرة الدور الذي كان يقوم به قبل زمن السلطة.
وعلاوة على ذلك لم يمثل مصالح العراق في المحافل الدولية، بقدر ما مثل مصالح دولة أُخرى. ولعلها أول مرة في تاريخ الخارجية العراقية، بل وتاريخ العالم، أن يُصرح وزير الخارجية بما يُخالف تصريح رئيسه رئيس الوزراء، والحادثة مشهورة بخصوص كيفية التعامل مع الحصار على إيران، فحيدر العبادي كان مع مصلحة بلاده، بينما وزيره في الخارجية مع مصلحة الولي الفقيه!
تولى أمر وزارة الخارجية العراقية في العهدين الملكي (1921- 1958) والجمهوري (1958-2003) تسعة وأربعون وزيراً، وتكررت أسماء بعضهم أكثر من مرة، على أربع وستين وزارة. كان الأول في العهد الملكي ياسين الهاشمي (ت 1937)، فأول وزارة خارجية تشكلت (1924)، وليس مِن تاريخ تشكيل الدولة العراقية (1921)، وآخر وزراء ذلك العهد محمد فاضل الجمالي (ت 1997)، شغل هذه الوزارة خمس مرات، وفي إحداها جمع بينها وبين رئاسة الوزراء، وظل وزيراً حتى سقوط العهد الملكي (1958).
أغلب وزراء الخارجية العراقية كانوا مِن المثقفين والباحثين، ولهم دراسات أكاديمية وأدبية، ومِنهم الجمالي، لكنهم لم يستعرضوا في المحافل الدبلوماسية معارفهم، وهي حصيفة وليست واهية، ولم يعمموا مقولاتهم على السفارات كي تُحفظ من قِبل الموظفين، وكأن الخارجية برمتها غدت ملكاً للوزير، مثلما فعل آخر الوزراء بعد 2003.
جاء الجمالي والجعفري من ثقافة طائفة واحدة، الأول مِن الكاظمية والثاني من كربلاء، وتكاد المؤثرات تكون واحدة، فكيف كان الجمالي وكيف صار الجعفري؟! لا نطلب من الأخير أن يكون بوعي وشخصية الأول، لكننا نقابل بينهما كوزيري خارجية ورئيسي وزراء، كيف استفاد الجمالي من تعليمه، وعاد إلى العراق متبوئاً الوظائف الكبيرة باقتدار، كمسؤول عن التربية والتعليم ثم الدبلوماسية. كان يعمل مِن أجل عراق قوي بين الدول، لم يفرط بمصالح بلده، وإن كان هواه مع دول عظمى إذ «كان مؤمناً بالتعاون مع بريطانيا والولايات المتحدة، مع المحافظة على قدر الإمكان على مصالح العراق» (بصري، أعلام السياسة في العراق الحديث).
أصدر الجمالي عشرات الكتب، وأغلبها بعد تركه المنصب، بينما صدرت للجعفري عشرات الكتب، وهو في المنصب الحكومي، فكل عبارة قالها في محفل دعاة أو نساء ضمن دعاية انتخابية صيرها كتاباً، ويستغرب مِن وقعت عينه على أربعة مجلدات ضخام تحت عنوان «خطاب الدولة»، وقبلها مجلد ضخم «زنار النَّار»، وكأنه لا شغل للرجل إلا إصدار الكتب، لكنك لا تجد فيها سوى الأوهام على أنها ثقافة وسياسة.
يحتاج العراق إلى وزير خارجية كمحمد فاضل الجمالي، وليس لخطيب وواعظ غير منضبط كالجعفري، هذا ما تتعين ملاحظته عند اختيار وزير الخارجية الجديد، أي أن يُقدم بلاده ويعمل على تصفية الخلافات الخارجية، لا يكون موظفاً في خارجية بلاد أجنبية، وفي كل خطاب يُقدم نفسه على أنه لسان حالها.
نعود إلى وصية الأولين في مَن يمثل بلاده خارجياً: «اختر لرسالتك، في هدنتك وصلحك ومهمَّاتك ومناظراتك والنيابة عنك، رجلاً حصيفاً». لا تغلب المحاصصة على اختيار وزير الخارجية صوت وصورة الدَّولة، وهنا نذكر بقول صالح الجعفري (ت 1979): «أكلَ يومٍ ضجيج/ يقوم حول المناصب/ وأعجب الكلّ ينمي/ إلى اختلاف المذاهب»(الخاقاني، شُعراء الغري). لا يهم مِن أي دين أو مذهب أو قومية يكون وزير الخارجية، المهم أن يكون له منطق وهيبة محمد فاضل الجمالي، وعشرات الوزراء السابقين الذين ملؤوا مقاعدهم في المحافل الدولية.