«البدانة القدرية» والمعاناة الشخصيّةَ.. و«دهشة لورا»
د. خالد جمال السويدي
عرض: خالد عمر بن ققه

في الحلقة الماضية من هذا العرض تناولنا ثلاثية «التحدي وسعادة تحطيم الحائط ودولة الرفاه»، وفي هذه الحلقة نواصل عرض تجربة الدكتور خالد السويدي، والتي حَوَّلَت المكاشفة كما يقول إلى مصدر قوة، انطلاقاً من أن كسر «الحائط»، وقهر الألم والتعب والضعف، وكل هذا يجعل المضيَّ في طريق ترسيخ العادات والممارسات الإيجابية جزءاً من السلوك المستقبلي لمن يخوضون غمار المعاناة الشخصية، إلى أن يتحقق الهدف الذي يكرر الحديث عنه كثيراً، وهو «أن يصبح المرء كل يوم النسخة الأفضل من نفسه»، ولكن كيف تمكن المؤلف من أن يكون الأفضل من نفسه؟

نجد الإجابة في رفضه لأمرين مهمَّين: الأول قناعته «القَدَريّة» من أن البدانة أمر مسلم به من خلال سيطرة عقله عليه، حيث إن هذا الأخير أقام بناءً منطقياً محكماً، ووفّر الحجج والبراهين الدامغة ليصل بي إلى الاقتناع بعبثيَّة مقاومة البدانة، وبالتي ضرورة مواصلة نمط الحياة الذي لازمه منذ طفولته، وارتياد مطاعم الوجبات السريعة، والإقبال على اللحوم المشبعة بالدسم والدهون، واِلتهام أنواع مختلفة من الحلويات التي تتنافس المتاجر والمطاعم على تقديمها بأكثر الطرق إغراءً، مستعينةً بوسائل تسويق هدفها أن تهزم مقاومته، وهكذا هي فعلت، وتفعل، مع أمثاله من البدناء.
والأمر الثاني: توفر عناصر البرهنة على أن حتمية الاستسلام للبدانة يُرْجِعُه العقل والنقل إلى عامل الوراثة، إذ تنتشر زيادة الوزن في بعض فروع أسرته، وقد تعود رؤية أقارب بدناء منذ طفولته، الأمر الذي جعل البدانة أمراً مألوفاً وطبيعياً بالنسبة له، وإذا تم الاحتكام لمنطق العلم، فإن نسبة كبيرة من حالات السمنة أو البدانة ترتبط بعوامل جينية، تتحدد على أساسها الكميات التي تُخزن من الدهون في مناطق من الجسم مثل الفخذين أو البطن.
معاناة كويتية
يذكر خالد السويدي هنا أنه واجه عملية خداع واسعة من العقل، لجأ فيها هذا الأخير إلى استخدامه للإحصائيات، وهي كما يقول المؤلف:«ذات سطوة على الإنسان المعاصر، وخاصة إذا كان مثلي قد اختار البحث العلمي مساراً مهنياً له»، لكن ماذا تقول الإحصائيات هنا؟.. يجيب الكاتب:«تشير الإحصائيات إلى أن أكبر معدل للسمنة في العالم يوجد في دولة الكويت، التي تنتمي والدتي إلى إحدى عائلاتها المعروفة، فحسب مؤشر أمن الغذاء العالمي احتلت دولة الكويت المرتبة الأولى بالعالم في انتشار زيادة الوزن بين مواطنيها، إذ تبلغ نسبة الذين يعانون الوزن الزائد 88 في المئة، أما من يعانون السمنة المفرطة، فتقترب نسبتهم من 42.8 في المئة من مواطني دولة الكويت، وهذه الإحصائيات كانت تصل بي إلى النتيجة نفسها، وهي أن السمنة قدَرٌ لا يمكن تغييره، فبين كل عشرة أشخاص هناك شخص واحد فقط مرشح لأن يكون وزنه في المعدل الطبيعي».
وعلى خلفية تجربته، يذكر خالد السويدي: «أن محاولاتي الفاشلة سابقاً لإنقاص الوزن أسهمت في ترسيخ فكرة «البدانة القدرية»، في عقلي، ففي عامي 2004 و2005، بدأتُ محاولات للتخلص من الوزن، وخسرت عشرين كيلوجراماً، لكنني ما إن توقفتُ حتى استعدتها، وفوقها بضعة كيلوجرامات إضافية، وجرَّبتُ نوعاً آخر من الأنظمة الغذائية يعتمد على المياه لإنقاص الوزن، وتقوم فكرته على ملء المعدة بالمياه لإعطاء إحساس بالشبع، ما يساعد على حرق الدهون بصورة أفضل، ويزعم من يسوِّقون لهذا النظام الغذائي أنه سيحقق نتائج كبيرة في أسبوع واحد، والحقيقة أن شرب المياه مفيد وصحي، ونظامي الغذائي الحالي يعتمد على شرب كميات كبيرة منها، لكن النظام الذي اتَّبعَتْه سابقاً كان خطأ وغير مفيد، والأخطر هو الترويج لفكرة خسارة الوزن في أسبوع، لأن هذا المفهوم الذي يلعب على وتر النتائج السريعة عبر وسائل سهلة هو أكثر الممارسات ضرراً على كل من يرغب حقيقة في مواجهة مشكلة البدانة أو التخلص من الوزن الزائد».
ويعترف الكاتب بأن السبب وراء فشل محاولاته السابقة، يعود إلى كون فقدان الوزن يحتاج إلى«المعاناة الشخصية»، وفي هذا الوقت لم يكن جاهزاً لمثل هذه المعاناة.. وحين لا يملك الفرد القدرة على تقبلها، فإن ذكاءه كله وقدراته العقلية تصبح مُكرَّسة للبرهنة على أن وضعه طبيعي وعادي جداً، ويترتب عن ذاك نوع من العنف الداخلي، الذي لا يمكن التخلص منه إلا بالخروج من«فخ نظرة الآخرين»، وقد تعرّف السويدي على نفسه، انطلاقاً من مطالعته لكتاب «الذكاء العاطفي» للبروفيسور «دانييل جولمان»، وقد تمكن من تحقيق ذلك عبر «ألتراماراثون» الفجيرة – أبوظبي، والذي اعتبره قبل كل شيء «هديته إلى نفسه، لأنه نجح في تقبل المعاناة الشخصية، وهي الطريق إلى نمو الشخصية ونضجها، وبها تمكن من الوصول إلى رحابة معرفة نفسه، والبحث عن مقاييسها الخاصة بها، لا مقاييس الآخرين، ولكن ما الدافع وراء هذا التغير؟

جدار الحماية الزائف    

اختيار خالد السويدي للمعاناة طريقاً، وهجر الاستسهال والراحة، لم يكونا ليتحققا لولا إحساسه بالخطر على حياته، وهو ما نستشفه من روايته التالية:».. بعد أن نظرت الطبيبة بإمعان في نتائج الفحوص التي أجريتها وجدتها ترفع بطاقة صفراء أمام عينيَّ، وهو ما أحدث الأثر المطلوب تماماً، فقد انتبهت كل حواسي في هذه اللحظة، وسألتها: ما معنى ذلك؟ فقالت لي: إنني الآن في مرحلة مقدمات السكري، أو ما قبل الإصابة بالسكري، وأخبرتني أنه تبقت لي فترة قصيرة سأصبح بعدها مريضاً كاملاً بالسكري، وحين سألتها عن الفترة المتبقية، قالت لي: إنها تقترب من ثلاثة أشهر.. وحين عدت إلى بيتي في ذلك اليوم كان يتملكني شعور بالفشل، لقد اهتز جدار الحماية الزائف الذي بنيته للتكيف مع زيادة وزني، وأوشك أن ينهار«، ولهذا سعى إلى التغير، وحقق ذلك عبر السمو الروحي».
لقد وصل خالد السويدي إلى قناعة مفادها: تطويع الجسد والعقل للإيمان، ذلك لأن الإيمان بالنسبة له هو «الروح التي تسري في كل شيء في الحياة، وتجعلها ذات غاية أسمى، وكان ذلك مهماً بالنسبة إليه في هذه المرحلة، كما أن الإيمان يهذب نفسك، ويجعل الإنسان قادراً على إدراك موقعه في الكون.. وهنا تساءل السويدي:«ما قيمة كونك مديراً تنفيذياً لشركة عملاقة، أو مالك إمبراطورية تجارية، أو صاحب قدرات بدنية هائلة؟.. ما قيمة كل ذلك أمام جلال الله وعظمته؟، كُنْ من تكون، وكل هذا لا قيمة له عند الله الذي يطلب منك أن تعبده فقط، وأن تلتزم طريق الفضيلة والخير، ووقتها سيصبح أي طريق تسلكه طريقَ خيرٍ ونجاحٍ».
من ناحية أخرى يرى السويدي: أن الإيمان الحقيقي يمنح الإنسان قوة يمكن له أن يستخدمها في كل شيء، وقد استخدمتها في التدريبات الرياضية الشاقة، واستخدمتها في الجري من الفجيرة إلى أبوظبي، وهنا يروي قصة حقيقية عاشها:«أذكر أن لورا المعالجة الفيزيائية التي رافقتني خلال الألتراماراثون كانت تنظر إليَّ باندهاش وأنا أصلي، فقبلها بدقائق كنت داخل السيارة الضخمة (التريلر) عاجزاً حتى عن تحريك قدميَّ اللتين بلغتا غاية إجهادهما، وها هي الآن تراني أركع وأسجد اعتماداً على العضلات التي تيبَّست.. سألتني: كيف تستطيع الركوع والسجود والحركة في مثل حالتك؟، حدثتها عن الإيمان الذي يجعلني راغباً في أن أُصلِّي مهما كان الألم قاسياً، وأن هذا الإيمان يمنحني قوة تتغلب على تأثيرات (حمض اللاكتيك) الذي يتسبب تراكمه في العضلات، بفعل التمارين الرياضية القاسية، في آلام هائلة، ويمنعك من الحركة».
سعادة المخاطرة
لا ينسى خالد السويدي، وهو يسجل تجربته الشخصية، أن يتوجه بشكل مباشر إلى أبناء جيله، قائلاً: «واجب علينا نحن شباب دولة الإمارات العربية المتحدة، أن نخرج من منطقة الاستسهال والراحة، لأن العالم يتجه نحو التعقيد والصعوبة، والنجاح الذي تحققه دولة الإمارات العربية المتحدة يخلق كارهين وأعداءً من حيث لا نتوقع.. «غير أنه يستدرك، ويأخذ العبرة من غيره من الشباب الإماراتي الذين لم يكتفوا بتغيير النفس، وإنما بتقديمها فداء للوطن، وعنهم يقول:«إن شباباً في مثل عمري، أو أصغر مني بعشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً، يُسطِّرون ملحمة مشهودة من الشجاعة والإقدام في اليمن الشقيق لإنقاذ المنطقة، والعالم العربي بأكمله، من خطر محدق، ويحققون إنجازات وانتصارات عسكرية هائلة في بلد ينطوي العمل العسكري فيه على تحديات تجعله من بين أصعب جبهات القتال في العالم، وهذا يقتضي من كل إماراتي أن يكون على مستوى المسؤولية، وأن يؤهل نفسه لأداء مهام يحتاج فيها إلى إرادة لا تُقهر».
تلك التضحيات هي حماية للأولئك الذين ركنوا للاستهلال والراحة، لذا على شباب الدولة أن يدركوا أنهم يتطورون وينمون بفضل تضحيات كبيرة ومعاناة يتحملها عنهم آخرون، وجنودنا البواسل في اليمن نموذج لذلك، ويجب أن يكون لكل منا معاناته الشخصية، وأن يفعل شيئاً خارج منطقة الاستسهال والراحة، والمجالات مختلفة، فإذا كان المطلوب في مرحلة معينة هو الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة، وبذل أقصى الجهد، فلتذهب من دون تردد، ولتُثبت أنك الطالب الأفضل والأكثر تفوقاً، وإذا كان المطلوب هو إتقان مهارات معينة لتتطور في عملك، فلا تؤجل ذلك لحظة واحدة، لأن عملك بكفاءة جزء من نمو دولتك العظيمة، وإذا كان المطلوب هو بدء عملك الخاص بدلاً من الركون إلى الوظيفة الحكومية، فابدأه على الفور، لكن بعد دراسة متأنية لخطواتك تبذل فيها جهداً حقيقياً.
لكن لماذا كل هذا؟.. يجيب خالد السويدي قائلاً:«لأنه لا تطوُّرَ على مستوى الأفراد أو مستوى المؤسسات أو الشعوب والدول من دون قدر من المخاطرة المحسوبة، والتي من دونها لن تدرك السعادة».

يتبع..|..