لم يسر تاريخ الشعوب والحضارات متساوياً متوازياً، نظراً للخصوصية التاريخية لكل شعب ولكل حضارة؛ وهي خصوصية بالغة الأهمية بالنسبة للإمكانات التي تملكها كل حضارة في ضبط اتجاهات نموها.
وقد برزت قضية الحضارات في التاريخ كمسألة تمس سلطة من كان على رأسها مساهماً في تفعيلها داخل نطاقه الجغرافي، وعلى ضوء المصالح الاستراتيجية في حينه.
واستمر الأمر على هذا النحو ضمن خط بياني متعرج، وفق الاختلافات والتفاوتات التي حكمت مسارها. وهي تفاوتات أسهمت في تحركها ضمن خطوط مستقيمة أو متلاقية، سلماً أو صراعاً، ووفق المصالح الناظمة لعلاقات الأطراف؛ تعاوناً أم عداءً.
لقد حدث ذلك في تواريخ شعوب كثيرة، حسب ظروفها الاستراتيجية وأحوالها
الآنية، حيث ظلّت سبيلاً لانطلاق حياة البشر، ما أضفى بعض التعقد على علاقاتهم المختلفة في السلم والحرب. وهذا ما واجهناه في علاقة العرب والمسلمين بالشعوب الأخرى، في مختلف الفترات، حيث كان الحديث عن التاريخ العربي والإسلامي ذا حضور عبّر عن أهميته في الإنتاج الذي قدمه علماء وباحثون مرموقون تركوا أصداء في التاريخ الإنساني كله. وهنا يظهر الاسم اللامع، والذي ترك أثراً في علمي التاريخ والاجتماع، ألا وهو ابن خلدون الذي طرح في «مقدمته» أطروحة ذات أهمية خاصة في مجال الحضارات وتاريخها، وضمنها نظريته حول التراث والتاريخ وعلم الاجتماع.
كان اهتمام ابن خلدون كبيراً بالمسألة الحضارية، حيث أفرد لها فصلاً في كتابه المرموق (المقدمة)، عنوانه: «في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب».
لقد وضع ابن خلدون كتابه المذكور في مرحلة استنفاد العصب الفاعل في الحضارة العربية الوسيطة، وفي ظل الصعود البطيء للحضارة الغربية بتجلياتها المبكرة، لذلك أدرك عدم التوازن بين الحالتين العربية المتراجعة والغربية الصاعدة.
ومع ذلك نلاحظ توجهاً آخر توقف عنده الأفق العربي، توجه عبّر عنه الشاعر أبو فراس الحمداني، وهو يضع المسألة في حقل آخر، حين يقارن، من موقع إنساني وثقافي، بينه كرجل عربي ومسلم، وبين «الآخر» متمثلا بغير العربي وغير المسلم:
معللتي بالوصلِ والموتُ دونهُ/// إذا مِتّ ظَمْآناً فَلا نَزَل القَطْرُ
وبمزيد من الوضوح يقول الشاعر نفسه:
وَنَحْنُ أُنَاسٌ لا تَوَسُّطَ بيننا .............. لَنَا الصّدرُ دُونَ العالَمينَ أو القَبرُ
هنا نواجه موقفين اثنين يعبر فيهما الشاعر عن حالة أولى تتمثّل في طموحه ضمن «علاقة حبّ لامرأة تعلَّق بها»، حيث جاء حديثه مشحوناً «بالذاتية» التي يبرز فيها العنصر الوجداني؛ في حين أنه من طرف آخر عبّر عن المسألة في بنية ذاتية خاصة يفوح منها موقف مفعم بـ«التنظير» و«الذاتية».
وفي كلتا الحالتين، نضع يدنا على مسألة «الأنا» و«الآخر» بروح عمومية الموقف الذي لا يختزل بتحديد العلاقة بين ذلك الأنا وهذا الآخر دون شحن ذاتي كبير تقتضيه المغايرة.
من ذلك كله، نستخلص أن ثنائية الأنا والآخر لم تكن غائبة في الحضارة العربية، خصوصاً في الصيغ الذاتية، حين ينقسم الشاعر بين البعدين والموضوعي.
إن الحضارة العربية الإسلامية الوسيطة أنتجت منظومة أفكار أوجدت بدورها حالة شعرية ذاتية معبّرة عن هذه الحضارة، حيث تفاعلت المنظومة الشعرية مع مسائل كبرى أنتجتها المرحلة التاريخية بمفارقاتها المختلفة. وهذا ما يؤكد أن الخطاب العربي الإسلامي الوسيط اتجه نحو أكثر المسائل ذاتية وشخصية، دون أن يفتقد الدلالات التاريخية الموضوعية.