تمر بنا في هذه الأيام الذكرى الخامسة والأربعون لحرب أكتوبر التي أثبتت قدرة العرب على تقديم نموذج ناجح لعمل استراتيجي من طراز رفيع في ظل ظروف بالغة الصعوبة بعد هزيمة 1967 التي مكنت إسرائيل من احتلال شبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية، ناهيك باستكمال احتلال أرض فلسطين، مما أفضى إلى إحباط غير المسبوق لدى كل عربي، ومع ذلك فقد كانت وقفة الجماهير العربية الرافضة للهزيمة نقطة البداية في العمل الجبار الذي بدأ في كل من مصر وسوريا لإعادة البناء العسكري بدعم عربي كامل بدأ مالياً في قمة الخرطوم التي انعقدت بمبادرة سودانية في أغسطس من ذلك العام وانتهت إلى استراتيجية سياسية عربية مشتركة لإزالة آثار العدوان بعد تصفية أهم خلاف عربي آنذاك وهو المتعلق بالثورة اليمنية، فضلاً عن مبادرة كل من الكويت والسعودية وليبيا بتقديم دعم مالي سخي لم يكن ممكناً التقدم دونه في جهود إعادة البناء العسكري، وكان مدلول هذه التطورات بالغ الأهمية، فقد كان يعكس أن مفهوم الأمن القومي العربي ليس وهماً وأن ثمة وحدة في إدراك مصادر التهديد لكل العرب، وأن مواجهة هذا التهديد تعلو على الخلافات العربية العربية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما امتد إلى نطاق التخطيط للعمليات العسكرية المزمع القيام بها لإزالة آثار العدوان، ولم تكن المرة الأولى في تاريخ المواجهات العربية الإسرائيلية، فقد كانت حرب 1948 عملاً عربياً جماعياً، وكان ثمة تنسيق مصري سوري أردني في 1967، لكن غياب التخطيط المشترك كان سمة مشتركة في الحالتين، أما الإعداد لحرب أكتوبر فقدّم نموذجاً مختلفاً استند من ناحية إلى تخطيط مصري سوري مشترك للعمليات الحربية وصل درجة الاتفاق على ساعة صفر واحدة لبدء العمليات على الجبهتين المصرية والسورية، وكانت هذه سابقة أولى من نوعها في تاريخ المواجهات العسكرية العربية الإسرائيلية، ومن ناحية ثانية استند الإعداد للحرب إلى فكرة قومية المعركة من خلال رؤية عملية ناجحة لتطبيق معاهدة الدفاع العربي المشترك الموقعة في 1950. فقد كان الفريق سعد الشاذلي رئيساً لأركان القوات المسلحة المصرية وأميناً عاماً مساعداً لجامعة الدول العربية للشئون العسكرية، وقد عقد عدة اجتماعات لم يحاول فيها أن يفرض على أي دولة الالتزام بتنفيذ المعاهدة، وإنما كان السؤال للجميع عما يمكن أن تقدمه كل دولة للمعركة في حدود إمكاناتها وظروفها، وكانت النتيجة مبهرة. وقد شاركت تسع دول عربية مشاركة فعالة، بعضها بقوات برية وبعضها الآخر بقوات جوية وبعض ثالث بتقديم تسهيلات لوجستية، ولم يكن أداء هذه القوات على الجبهتين المصرية والسورية عملاً رمزياً بأي معيار وإنما امتزجت الدماء العربية على الأراضي المصرية والسورية في ملحمة باقية. وقد وجّه الرئيس السيسي في كلمته بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين للحرب، التحية «للوحدات العربية المقاتلة التي شاركتنا في حرب أكتوبر أشقاء أعزاء ورفاق سلاح».
واكتملت منظومة الأمن القومي العربي بقرار الدول العربية المصدرة للنفط حظر تصديره إلى الدول المؤيدة لإسرائيل، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وكان لهذا القرار أثره المدوي في الساحة العالمية، وبتكامله مع العمل العسكري العربي المشترك أصبح العرب سادس قوة في العالم.
ما أبعد الليلة من البارحة، فإلى جانب التهديد الإسرائيلي للعالم العربي، تعددت التهديدات بعدد القوى الإقليمية الطامعة في الهيمنة على مقدراته، وفي مقابل إدراك عربي واحد لمصادر التهديد، تعددت الإدراكات، وفي مقابل التنسيق العربي رفيع المستوى سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، أصبحت بعض الدول العربية تواجه مخاطر جسيمة تتهدد وحدتها ولا تقدر بنيتها الداخلية على مواجهتها.. وهكذا أصبح النموذج الذي قدمته حرب أكتوبر حلماً بعيد المنال. ولا شك أن ذلك يبقى ممكناً، غير أن الوصول إليه ينطوى على صعوبات ويتطلب عملاً مخلصاً مضنياً، وما أجدر الدول العربية التي حافظت على تماسكها ووتيرة تقدمها أن تشرع على الفور في العمل المنسق من أجل إعادة الحياة إلى روح أكتوبر المجيدة.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة