كيفما تكون الصيغة ومهما كانت الصعوبات، لا بدّ لـ «تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي» الذي تدعو إليه الولايات المتحدة وترعاه، من أن يبصر النور، لأسباب كثيرة بالغة الوضوح، ذاك أن إيران لم تترك لدول المنطقة أي خيار آخر غير المواجهة، فالبديل هو قبول سياساتها «الخبيثة» - بحسب الوصف الأميركي - والتكيّف معها، وهذا في الحالين انتصارٌ لنهج إيراني اعتمد تفكيك الدول ونشر الإرهاب وتدمير العمران وتقويض الاقتصادات وتخريب المجتمعات بإشاعة التعصّب المذهبي، وللأسف فإنه حقّق الكثير من هذه الأهداف. هذا ما ينبغي ألا يُنسى في أي لحظة، وما ينبغي ألا تتجاهله أو تقلّل منه أي دولة، كبيرة أو صغيرة، سواء تضرّرت بشكل مباشر أو غير مباشر من ذلك النهج.
لعل عدم الاعتراف بهذه المحصّلة السوداء وعدم وضع حدٍّ لاستمرارها، يمهّدان للتعايش مع تداعياتها الحاضرة والمستقبلية، تماماً كما هي الحال في التعايش مع الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين بكلّ ما صدّراه من أمراض سياسية واجتماعية إلى المحيط العربي، وكلّ ما استطاعا تكريسه من انتهاكات للقوانين والمعاهدات والأعراف الدولية. من الواضح أن نظام الملالي تعلّم الكثير من الممارسات الإسرائيلية بل تجاوزها وأضاف إليها ميليشيات محلية مرتبطة به عقائدياً، كما استطاع تجنيد مجموعات من السياسيين والعسكريين الذين يقدمون الولاء للولي الفقيه/ المرشد على ولائهم لأوطانهم وشعوبهم. هذه الميليشيات ومنظومة المصالح والمنافع التي تأسست عليها، كفيلة بجعل أي سلم أهلي أقرب إلى الاستحالة، إذ إن دأبها على الترهيب والإخضاع والاستقواء، سيكون لفترة طويلة عقبة أمام استعادة التعايش المشترك والوحدة الوطنية.
لا بدّ أن يكون التصدّي للتوسّع الإيراني الآن، ومن دون أي تأجيل، فهو قد تأخّر على أي حال، وكان الأفضل منعه قبل أن يُدخل وباء الإرهاب إلى سوريا، وقبل أن يخترق اليمن عبر جماعة حاقدة ومتخلّفة، وقبل أن يستحوذ على العراق مبلبلاً عربه وأكراده على السواء، وحتى قبل أن يهيمن «حزب الله» على لبنان. لا شك أن الحرب في اليمن زعزعت استراتيجية التغلغل الإيرانية وشكّلت بداية رسم الخط الأحمر أمام تمدّدها، لكنها ما لبثت أن راهنت على إطالة الحرب ونهج التخريب الكامل حتى لو أدّى ذلك إلى خسارة أتباعها «الحوثيين» احتمال أن يكونوا لاحقاً في المشهد اليمني، لأن هذا هو المصير الذي ينتظرهم في نهاية المطاف. فهذا التوسّع ضخّم لدى طهران حتمية الحصول على أقصى حدٍّ من النفوذ والمصالح، حتى لو اضطرّت إلى دفع أدواتها المحلية إلى ما يشبه الانتحار.
في مختلف المراحل، كانت هناك مسؤولية مشتركة، عربية ودولية، غير أن الجانب العربي حاول أن يعالج المشكلة بهدوء تجنباً للحساسيات الطائفية، وسعياً إلى علاقات سلمية وطبيعية. فالمحاولات السعودية معروفة في هذا المجال، إذ لم تفوّت فرص وجود مسؤولين عاقلين في طهران وتجاوزت كل الاعتبارات لتمدّ يدها للتعاون معهم. معروفةٌ أيضاً جهود دولة الإمارات لحل سلمي قانوني لمسألة الجزر الثلاث. غير أن الجانب الإيراني كان يُجهض كلّ مسعى طيب، مبطناً مشروعه السقيم. أما الجانب الدولي، تحديداً الغربي، فانكبّت دوله منذ اندلاع «الثورة الإسلامية» على الانشغال بحساباتها الضيّقة واللعب على التناقضات العربية - الإيرانية، وباستنباط السبل لاستخدام إيران في ابتزاز العرب أو استعداء العرب لاستمالة إيران، ودائماً مع إشعار طهران بأن الغرب مستعدّ لقبول نظامها حتى وهو في ذروة عدوانياته وتهوّراته السافرة لقاء العقود والصفقات. ألم تكن هذه حصيلة حوار الـ 5+1، ألم يعتبر هذا النظام أن الاتفاق النووي كان بداية الاعتراف بـ «نفوذه» الإقليمي؟
المؤكّد أنه لا تفكير حالياً في أن يكون «تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي» مشروع حرب مباشرة ضد إيران. صحيح أنها لن ترتدع إلا إذا تلقت ضربة قاسية، لكن الهدف الواضح هو حصر خطرها واحتواء تهديدات أتباعها. ثمة استراتيجية أميركية قيد التطبيق حالياً، ويُفترض أن تتواصل لتبدأ مفاعيلها بالظهور، ولا بدّ للدول العربية الثماني أن تستغلّ هذه الفرصة، فهي قد لا تتكرّر. لكن الأمر لا يتعلّق فقط بما تريده أميركا بل إنه يعني العرب بعدما اكتملت لديهم المعطيات بأن إيران تلعب دوراً رئيساً في نشر الإرهاب. من الطبيعي أن يتخذ هذا «التحالف» بُعداً عسكرياً لكنه لن يتوصّل إلى غاياته بالعمليات العسكرية، بل بالصلابة السياسية أولاً وأخيراً، وهذا أضعف الإيمان المطلوب من الجانب العربي. فالارتكابات الإيرانية أمام الجميع، مكشوفة وصادمة، ولا مجال للمواقف الرمادية.