من أهم مناهج الاستشراق منهج الأثر والتأثر، وهو لصيق بالمنهج التاريخي، إلا أنه يتعامل مع حضارتين وليس حضارة واحدة. ويمكن اعتباره نتيجة للمنهج التاريخي بعد اكتشاف تداخل حضارتين. هنا يبرز منهج الأثر والتأثر لبيان أثر الحضارة السابقة في الحضارة اللاحقة، خاصة بعد إثبات الصلة التاريخية بينهما من خلال عصر الترجمة وقبله من خلال التجارة والجوار الجغرافي. لذلك يُبين المستشرق أثر الحضارات اليونانية والرومانية غرباً والفارسية والهندية شرقاً، في الحضارة الإسلامية، لإرجاع إبداعها إلى مصادر خارجية وليس إلى مصادر داخلية. فلولا الآخر لما كان الأنا! وبالتالي إفراغ الحضارة الإسلامية من مضمونها وإرجاع إبداعها إلى غيرها. فالفلسفة الإسلامية شروح وتلخيصات للفلسفة اليونانية عامة، ولأرسطو خاصة! وعلم الكلام ترديد لمقولات اللاهوت المسيحي في مصر والشام! وأصول الفقه (وأساسه القياس الشرعي) لا يختلف كثيراً عن القياس الأرسطي! فأركان القياس الشرعي أربعة: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم.. وأركان القياس الأرسطي ثلاثة: المقدمة الكبرى (وتعادل الأصل)، والمقدمة الصغرى (وتعادل الفرع)، والحكم (ويعادل النتيجة).. لكن ماذا عن العلة؟ إنها المبحث الجديد في علم أصول الفقه، والذي لم يرد في القياس الأرسطي ولم يظهر إلا في المنطق الاستقرائي الحديث عند جون استيوارت ميل. والتصوف أصله مسيحي أو فارسي أو هندي أو حتى يوناني، من فيثاغورس وأفلاطون! في حين يُعرف اليونان بأنهم أهل العقل والمنطق، والرومان بأنهم أهل القانون والنظام. الهدف إذن هو تفريغ الحضارة الإسلامية من مضمونها الإبداعي وإرجاعه إلى الحضارات السابقة عليها. ويبقى الإبداع الحضاري حكراً على الحضارة الغربية التي وإن كانت ترجمت ونقلت عن المسلمين في نهاية العصر الوسيط، كما اتضح ذلك في الرشدية اللاتينية، فإنها تجاوزتها، وأبدعت إبداعاً عبقرياً على غير منوال منذ أصولها اليونانية حتى الغرب الحديث.
ولا يطبق نفس المنهج على أثر الحضارات البابلية والآشورية والمصرية القديمة والكنعانية على الحضارة اليونانية. والتشابه بين حضارتين قد لا يعني بالضرورة أثر السابق في اللاحق، بل وجود حقائق إنسانية واحدة تظهر في كل حضارة طالما أن العقل البشري واحد.
ولما تعود الغربي على أن كل شيء في حضارته هو نتاج للتاريخ، فقد أسقط هذا النموذج على كل الحضارات الأخرى التي درسها، ومنها الحضارة الإسلامية. ويرجع تعريف الفضيلة بأنها وسط بين طرفين إلى مصدر خارجي، أرسطو، وليس إلى مصدر داخلي، القرآن والسنة؛ كقوله تعالى: «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورا»، أو كما ورد في السنّة النبوية: «خير الأمور أوسطها». ويقال الشيء ذاتها في الفكر العربي المعاصر؛ فكل دعوة إلى الحرية هي أثر من الليبرالية الغربية، وكل دعوة للعقل والعقلانية هي أثر من ديكارت والديكارتية وكانط والكانطية، وكل تحول نحو العلم هو ناتج عن أثر العلم الغربي ونظرية داروين.. فما قيل قديماً عن صلة الحضارة الإسلامية بالحضارة اليونانية يقال اليوم عن صلة الفكر العربي المعاصر بالفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، وكأن العقل والحرية والعلم.. ليست مطالب محلية للحياة العربية المعاصرة!
ويضم منهج الأثر والتأثر المنهج المقارن، ولكن لحساب طرف دون آخر، لحساب التاريخ، أثر السابق في اللاحق، وليس تشابهاً في المقاصد أو تحقيقاً لبنية مشتركة. كما يضم المنهج الإسقاطي لحساب تاريخ صورة الإسلام في الغرب عبر العصور.
ويضم منهج الأثر والتأثر ميادين أخص ما تخص العرب، مثل اللغة لإثبات حضور عناصر يونانية في التفكير اللغوي عند العرب. ويتم استبعاد خطأين؛ الأول نفي الأصالة عن العرب، والثاني نفي الأثر اليوناني. وكلاهما موقفان متعصبان. والأجدى القراءة النقدية لعلاقة كل منهما بالآخر دون الوقوع في منهج التملك والاستحواذ.


*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة