منذ قيام الدول العربية الحديثة وتأسيس التعليم النظامي، وظهور أجهزة الإعلام، وسنّ التشريعات والقوانين، كانت هناك مجموعة من الأفكار لها الكلمة العليا في مناهج التعليم، وفي رسالة ومحتوى الإعلام، وفي اتجاهات القوانين. وهذه الأفكار التي كانت تُودع في الصدور، وتُصبُّ على الرؤوس، ويتخذ منها سياجاً لا يتجاوزه الناس، هي ما شكّلت وعي المجتمعات العربية جيلاً بعد آخر. ذلك أن وعي الإنسان يتشكّل على يد من ربّاه، والتعليم الذي تلقاه، والإعلام الذي وصله صداه، والقانون الذي خاطبه واحتواه، وأي روافد أخرى تبقى ثانوية التأثير على تصوّره للأمور ونظرته للحياة، كما أن بواكير وعيه بين أفراد أسرته، هي نتاج تأثر هؤلاء بما تلقوه من التعليم، وما وصلهم من الإعلام، وما أُلزِموا به من القانون.
ورغم أن الأفكار التي هيمنت على الفضاء العربي لعقود طويلة عديدة ومتنوعة، فإنه يمكن حصرها في أفكار رئيسة منها، أن الرجل مؤهل أكثر من المرأة، وأن الانتماءات الدينية أو المذهبية أو القومية مقدمة على المواطنة، وأن حق الجماعة أولى بالرعاية من حق الفرد، وأن الطريق إلى المستقبل هو بالسير بالعكس نحو الماضي، وأن الغرب متآمر على العرب، وأن كل الآخرين ملّة واحدة، وأن الإسلام هو الحل، وأن الجهاد هو سبيل الخلاص، وأن الموت غاية، وأن الخلافة آتية لا ريب فيها، وأن العقل يطيع إذا أمر النقل، وأن الدين قضية، وأن التنوير معاداة للدين، وأن لرجل الدين الوصاية على الجميع.. وكل هذه الأفكار وغيرها من أفكار بائسة استُلهمت وروعيت واستُؤنس بها، بشكل وبآخر، فكان يُسمع صداها وتُرى ظلالها في التعليم الذي فُرض وتقرر، والإعلام الذي بُث ونُشر، والقانون الذي صيغ وشُرِّع.
وليس ثمة داعٍ لإعادة الكلام حول المحصّلة النهائية لتلك الأفكار، إذ كثير من الدول العربية ما بين فشل وانحطاط أو خراب ودمار، بعد أن أعطيت تلك الأفكار نحو قرن من الزمان لتحقق نتائج إيجابية، فلم تنتج إلا الفساد السياسي، والفشل الاقتصادي، والتخلّف العلمي، والتشدّد الديني، اللهم إلا دولاً قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة تعمل من أجل المستقبل، ولا يعود الفضل فيما وصلت إليه بأي حال من الأحوال إلى تلك الأفكار، بل على العكس، كلما ابتعدت عن تلك الأفكار السّامة ازدهرت وتجدّدت قابليتها للحياة.
والسؤال هو: إلى متى تجربة المجرّب المرة تلو الأخرى؟! إلى متى الإصرار على فعل الأمور نفسها وتوقع حدوث نتائج مغايرة؟! إلى متى زرع الشوك وانتظار حصد العنب؟! إلى متى العكوف أمام بلورة سحرية واستجدائها لتغيير الحال إلى أحسن حال؟! إلى متى الدخول بلا استعداد إلى الامتحان، ثم الشكوى من صعوبة الأسئلة؟! إلى متى الذهاب ببضاعة فاسدة إلى سوق مزدهرة بالبضائع الجيدة ثم التذمّر من قوانين السوق؟! إلى متى محاولة اللحاق بقطار الحضارة على ظهر الحمير والبغال؟! إلى متى السباحة عكس تيار الحداثة؟! وكم من السنوات تستحق أن تعشش أي فكرة حتى يمكن الحكم عليها بأنها نافعة أو مدمرة؟!‏?