تابعتُ على مدى أسابيع كتابات عربية كثيرة في نقد اتفاق إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الفلسطيني المعروفة إعلامياً باتفاق أوسلو، نسبةً للعاصمة السويدية التي احتضنت محادثات سرية أفضت إليه، بمناسبة مرور 25 عاماً على توقيعه في 13 سبتمبر 1993. ويقترن هذا النقد بخليط من العوامل التي أسهمت في فشل الاتفاق، لكن أهم ما يجري التركيز عليه في هذا السياق تعنت إسرائيل، وسعيها إلى غلق الطريق أمام اتفاق نهائي يُعيد للفلسطينيين حقوقهم، وصعود اليمين الصهيوني، والضعف والتفكك على الصعيد العربي، والدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل.
وقليل للغاية من يلتفتون إلى سوء الأداء الفلسطيني وتداعياته في الفترة التالية لتوقيع الاتفاق، رغم أن مهندسه الأساسي ورئيس السلطة الفلسطينية الحالي محمود عباس قال منذ البداية في كلمته أمام المجلس المركزي لمنظمة التحرير في سبتمبر 1993 إن هذا الاتفاق «سيكون معبرنا إلى الدولة أو إلى كارثة». وكان واضحاً، منذ إعلان الاتفاق، أن التفاوض على تنفيذه أصعب من المفاوضات حول توقعيه، لأن معظم بنوده حمَّالة أوجه، وتتطلب اتفاقاً على تفسير مشترك لها.
غير أن الأداء الفلسطيني على المستويين السياسي والتفاوضي لم يرتفع إلى المستوى اللازم للتعاطي مع اتفاق من هذا النوع، الأمر الذي أتاح للقوى المتطرفة في إسرائيل إجهاضه بسهولة، ودون أن تتحمل المسؤولية أمام العالم عن الكارثة التي وصل إليها الوضع بعد 25 عاماً.
كان مفترضاً أن يقود الاتفاق، وفق ما نص عليه صراحة، إلى إقامة دولة فلسطينية بعد 5 سنوات على توقيعه، لكن القيادة الفلسطينية انغمست في تفاصيل الترتيبات المؤقتة المتعلقة بإقامة سلطة حكم ذاتي، ولم تستثمر الدعم الدولي الواسع للاتفاق، فضلاً عن المساندة العربية القوية التي حظيت بها. وكان أداء مفاوضيها ضعيفاً في محادثات الاتفاقات المرحلية المكملة في طابا 1995، ووادي ريفر 1998، وشرم الشيخ 1999. وظل هؤلاء المفاوضون أسرى التوازنات الصعبة في الساحة الفلسطينية، والمزايدات التي تنافست فيها بعض الفصائل، فمرت السنوات الخمس دون إحراز أي تقدم باتجاه الوضع النهائي.
ومع ذلك، سنحت فرصة كان ينبغي إدراك أنها الأخيرة بالنسبة للفلسطينيين، عندما بذل الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون جهداً كبيراً في الوساطة التي قام بها في الأشهر الأخيرة من إدارته الثانية. كان كلينتون يحلم بالحصول على جائزة نوبل للسلام، ووجد في العمل من أجل حل نهائي لقضية فلسطين فرصته الأخيرة. ولذا دعا إلى قمة إسرائيلية فلسطينية في كامب ديفيد في يوليو 2000، وسعى إلى تقريب الموقفين وطرَح أفكاراً عامة لحل القضايا الأساسية، وفي مقدمتها المستوطنات والحدود والقدس واللاجئين. ولم يركن إلى اليأس عندما فشلت تلك القمة، بل قدم اقتراحات عملية محددة لتجسير الفجوة، ورتب محادثات بين الطرفين كانت جولتها الحاسمة في طابا في أوائل يناير 2001، أي قبل أيام على مغادرته البيت الأبيض.
وبدت تلك الجولة مبشرة لأن حكومة إسرائيل برئاسة إيهود باراك لم ترفض مسبقاً اقتراحات كلينتون التي كانت أفضل ما عُرض على الفلسطينيين حتى الآن، وأهمها الانسحاب من مساحة تتراوح بين 94 و97% من الأراضي المحتلة، وإخلاء ما بين 120 و125 مستوطنة في الضفة وغزة، بحيث تبقى ثلاثة تجمعات استيطانية رئيسة فقط، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية مع ترتيبات تتيح لإسرائيل سيادة على الأحياء اليهودية الصغيرة (كانت صغيرة حينها)، ومنحها حق الإشراف بصيغة ما على الحرم القدسي بما لا يمس السيادة الفلسطينية عليه، وعلى السور الغربي لحائط البراق، وإلزامها بالاعتراف بحق اللاجئين في العودة، على أن يقتصر العائدون لمناطق داخل إسرائيل على بضع آلاف في إطار لم الشمل.
لكن توازنات الوضع الفلسطيني حالت دون استثمار الفرصة الأخيرة. وتخيلت قيادة منظمة التحرير أن بإمكانها الحصول على ما هو أفضل بعد الانتخابات الإسرائيلية التي كانت وشيكة. وانتهت المفاوضات ببيان مشترك أقر فيه طرفاه نصاً بأن «مفاوضات طابا لا سابقة لها من حيث الأجواء الإيجابية، والرغبة المشتركة في التوصل إلى اتفاق كنا أقرب إليه من أي وقت مضى». وهكذا ضاعت الفرصة الأخيرة، وانتهى اتفاق أوسلو فعلياً، وخسر حزب العمل الانتخابات، وأعاد أرئيل شارون عملية السلام إلى نقطة الصفر التي بقيت عندها منذ 18 عاماً.