في حوار معي تمّ عام 2006، حول الخطاب الإسلامي والعربي من قبل الأستاذ وحيد تاجا، قلت: إذا حاولنا أن نرسم صورة للواقع العربي والإسلامي اليوم، ما هي الصورة التي من الممكن أن نرسمها، وما هي الأسباب التي أدت إلى هذه الصورة؟
في ذلك الحوار، جاءت إجابتي على النحو التالي: «في سؤالك هذا مدخل إلى كل شيء في العالم العربي الراهن، فما أشتغل عليه الآن ومنذ صدور آخر كتاب لي، يدخل في نطاق مقولة أصبحت جزءاً بارزاً بالدلالة المنهجية من عملي، وهي (الحطام العربي) عمقاً وأفقاً. وانطلاقاً من ذلك وبالعلاقة مع مسألة الجدلية بين الكل والأجزاء، يمكن أن نأخذ الأجزاء بالكل على نحو الكل بالأجزاء من موقع الحدث وما يحيط به ويخترقه. وهذا يسهل عملية التأثير والتأثر من موقع العلاقة الجدلية بينهما. ذلك لأن الفعل ورد الفعل لا يتم في لحظة ينتهي بعدها إلى زوال».
ورداً على ذلك، سألني المعني قائلاً: من أين جئت بهذا الكلام؟ أجبته: سمِّ لي قطاعاً من القطاعات المجتمعية في سوريا، لم يُحطَّم حتى الآن؛ فصمت! وفي هذا السياق أستطيع القول، وإن بحذر، إننا إذا لم نجب عن السؤال المطروح حالياً، فإنه سيجيب عنه لاحقاً بشر من طراز جديد لا نستطيع ضبط معالمهم الآن، خصوصاً في ضوء الانهيار الذي حدث مع بدايات أحداث 2011. وهذا الأمر لا يتصل بسوريا فقط، وإنما ينسحب على كثير من العالم العربي أيضاً.
وإذا كان الأمر كذلك، فإننا أمام إرهاصات التراجع إلى القرن التاسع عشر، وسط تعقيدات هائلة، عرقلت وتعرقل عملية الانتقال من فضاءات ذلك القرن إلى القرن الـ21. وإذا كنّا مخوَّلين بالتحدث عن حطام جديد، فهو حطام يجمع بين ماضيه وحاضره، كما قد يجمع بين حاضره ومستقبله، وجميعها ملطَّخة بدماء الصراعات الداخلية، التي حالت دون إنجاح الدول الوطنية وتهيئتها للدخول في عالم الحداثة والديمقراطية والوحدة.
والآن، تجد البنية المجتمعية التاريخية نفسها أمام نظام عولمي يبتلع الآخرين بصفتهم أشياء استهلاكية، بهدف إخراجهم من التاريخ. فالقانون اللصيق بهذا النظام: كلما ارتفعت قيمة «الأشياء»، هبطت قيمة الإنسان!
هناك أيضاً ظاهرة جديدة قديمة تكاد تعلن عن نفسها بلغة صريحة، ألا وهي «الطائفية». ومعلوم أن الانتداب الفرنسي راهن على سلاح الطائفية لخلق صراع بين مكونات المجتمع في سوريا. ويورد الباحث الدكتور سهيل زكار روايات شهود عيّان تمثل جميع الطوائف والأحزاب، حول ما جرى من صراعات في سوريا ولبنان خلال النصف الأول من القرن الماضي، تحول إلى صراعات قبلية وحزبية، وطائفية دينية، عرفها ويعرفها العالم العربي في وقته الحالي، وقد باتت متغيراً حاسماً في مصير دول عربية عديدة. أما الجديد فهو تحول هذه الظاهرة إلى برامج عمل لدى حركات سياسية في العالم العربي.
ويمكن نضيف أحوالاً أخرى تهز العالم العربي، منها الغلاء الفظيع والفاحش، الذي خرب حياة الطبقتين الوسطى والدنيا، وكذلك الأكثرية الساحقة من سكان بلدان الاضطراب العربي، إضافة إلى حصار مُتنام في أوساط الفقراء، بالتوازي مع تحميلهم عبء هذا الحطام المتنامي، الذي يتجلى خصوصاً في ارتفاع أسعار حاجات المجموعات المفقرة والمذلة والمحاصرة.
إن ذلك «الحطام» الذي تحدثنا عنه ولاحقنا مواقع تجسده، يبرز باعتباره «مأساة العصر»، التي تطال الأغلبية. ولنا أن نهيئ واقع الحال للمجهول المعلوم، فقد تحولت أوهام الواقع العربي إلى رماح خطرة.