مع مطلع الألفية الثالثة كان العالم العربي يؤتي من أطرافه، حيث تآكلت الدولة في الصومال، ووقع العراق تحت الاحتلال، وانفصل جنوب السودان، لكن ما إن جاءت بداية العقد الثاني من هذا القرن حتى اضطرب القلب العربي، بفعل ثورات وانتفاضات، لم تلبث أن تحولت إلى حرب أهلية، ثم صراع إقليمي ودولي في سوريا وليبيا واليمن، بما وضع «الدولة الوطنية» في هذه البلدان على منحنى الخطر. وانخرط طرف شرس في هذا الصراع لا يؤمن بفكرة «الدولة الوطنية» فرأينا دعوة إلى «خلافة» على أرض العراق وسوريا على يد «داعش»، ورهن المصلحة الوطنية لصالح طرف إقليمي طامع في العالم العربي كحال «الحوثيين» في اليمن، وجماعات وتنظيمات تكفيرية وإرهابية في ليبيا. وعلى التوازي حكمت مصر لعام من قبل «جماعة الإخوان» التي تتحدث، وفق نزعة أممية عن «الخلافة»، ووفق نزعة عولمية عن «أستاذية العالم»، وتقدمت الجماعة نفسها نحو السلطة في تونس، حاملة الأفكار ذاتها مع تعديلات طفيفة. كان كل هذا يتم بينما صعدت المذهبية والطائفية في العراق إلى ذروتها، ولاحت في الأفق بوادر تقسيمه إلى ثلاث دويلات، واحدة في الشمال للأكراد، والثانية في الجنوب للشيعة، والثالثة في الوسط للسنة. وبينما كان هذا يجري في سرعة مروعة، كان الحديث يتصاعد في سوريا عن انهيار قبضة الدولة المركزية، وذهاب إلى البلاد إلى التقسيم.
ومع هذا التطور الجارح، بدت الدولة الوطنية تهتز تحت دعاوى التفكيك تارة، وتحت دعوات الإلحاق والتذويب تارة أخرى، ما أثار رد فعل عميقا وواسعا لدى تيارات مدنية أبدت منعة في الدفاع عن الدولة الوطنية، وراحت تقاوم التصورات التي تستهين بها، أو لا تعبأ بها، أو تريد الإجهاز عليها.
لكن هذه التيارات لم تكن تملك القوة الكافية التي ترجح كفتها في هذا الصراع، وتمكنها من تحويل أفكارها وتصوراتها حول التماسك الاجتماعي، ووحدة التراب الوطني، وإعلاء قيم المواطنة، إلى إجراءات عملية قائمة في الواقع المعيش. ولم تجد أمامها بدا من إفساح الطريق أمام من يحوز ركائز القوة من السلطات التي كانت قائمة قبل الانتفاضات، والتحالفات الإقليمية النازعة إلى الإبقاء على الدولة قائمة بتكوينها الاجتماعي وحدودها الجغرافية المتوارثة من مرحلة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار، كي تقوم هي بهذه المهمة.
وفي ركاب هذا وجدنا الجيش يتدخل بعد انتفاضة واسعة ضد حكم «الإخوان» في مصر لمنع انجراف الدولة إلى صراع اجتماعي مفتوح، وربما حرب أهلية أو نزال طائفي دامي، بينما عادت القوة السياسية التقليدية في تونس إلى الواجهة، وأخذت الحكم، بعد أن اضطر «حزب النهضة» إلى التراجع تحت الضغط الشعبي الشديد، وتمكن الجيش العربي السوري بمساعدة خارجية من استرداد أغلب الأراضي التي انتزعتها الجماعات الإرهابية، وبعض قوى المعارضة المسلحة، وتدخل تحالف عربي في اليمن، ليمنع استيلاء «الحوثيين» التام على البلاد، بعد أن زحفوا تحت لافتات اجتماعية إلى صنعاء واستولوا عليها، وكادوا أن يقبضوا على عدن، وقفز بعض قادة الجيش الليبي إلى الواجهة في محاولة، لا تزال جارية، للحفاظ على تماسك الدولة، التي بدت في بعض الأوقات مرشحة للعودة إلى تكويناتها السياسية الثلاثة، وحيل بين الأكراد والانفصال في شمال العراق، وجاءت انتفاضة أهل البصرة ضد الوجود والنفوذ الإيراني، لتحيي النزعة الوطنية والقومية التي ظن كثيرون أنها قد غادرت أرض العراق إلى الأبد.
هذه التحولات والتطورات تمضي وفق تصور، صريح وضمني، نازع إلى الحفاظ على الدولة الوطنية قائمة، في هيئتها التي عاشت عقوداً من الزمن، حتى لو لم تكن أوتادها عفية قوية راسخة عميقة. لكن الوقوف عند هذا الحد ليس كافياً أبداً، إذ يحتاج الأمر إلى تلافي الأسباب التي جعلت الدول تهتز على النحو الذي رأيناه بمجرد أن قامت الشعوب طالبة الحرية والعدل والكرامة، وهو أمر يحتاج إلى فهم جديد يرى أصحابه، من صناع القرار ومتخذيه، أن تماسك الدول لا يجب أن يقوم على البطش، إنما على الانصهار والاندماج الاجتماعي الطوعي، ما يستدعي المسارعة إلى بناء الدولة المدنية الوطنية الحديثة بكل ما تعنيه من قيم وتصورات وإجراءات وخطط تنطلق من أن الشرعية الحقيقية تقوم على الرضا.