من العلوم التي لها أهميتها الخاصة علم التاريخ ودراسته، لأنه عبارة عن سجل تاريخي للحضارات يدفع البشرية كي تتعلَّم منه تجارب بعضها البعض، سواء أكانت ناجحة أم فاشلة، بما في ذلك عوامل التقدم والنهوض في حياة المجتمعات والدول، وأيضاً عوامل قيام الحضارات وسقوطها. لذلك يقول ابن خلدون إن التاريخ يعرِّفنا بظروف الأمم السابقة وأخلاقها، وبسيِّر القادة والملوك كي يتم الاقتداء بانتصاراتهم والابتعاد عن تكرار أخطائهم.
التاريخ عِلم يعلّم الناس ما ينفعهم من أجل استدامة نوعهم وفكرهم وأخلاقهم وتراثهم وعلومهم وحضاراتهم. وينقل المؤرخ البريطاني الشهير دنيال فرغسون، في كتابه «الحضارات»، عن رئيسه في الجامعة التي كان يدرّس فيها، قوله: إنه عندما كان طالباً في معهد ماساتشوستس للثقافة، ناشدته والدته كي يأخذ مقرراً في مادة التاريخ، فأجابها بلهجة فيها كثير من الغرور، بأنه يهتم بالمستقبل أكثر مما يهتم بالماضي. لكن بعدئذ أدرك أن خياره كان مجرد وهم، إذ لا يوجد في حقيقة الأمر مستقبل بصيغة المفرد، بل مستقبل بصيغة الجمع. ويتابع: «أشعر الآن بالانزعاج حين يتعلم أولادي قدراً أقل من مادة التاريخ مقارنة بما تعلمته أنا عندما كنت في مثل أعمارهم، ويعود السبب إلى كتب التاريخ السيئة وامتحانات المادة الأسوأ. فقد أدركت بعد ظهور الأزمة المالية أنهم ليسوا نسيجاً وحدهم في ذلك الاتجاه، إذ بدا لي أن قليلين فقط يملكون ما يتعدى المعلومات القليلة عن الركود الاقتصادي في السابق، والأمر في تصوري ينطبق على كل المجالات، وخاصة السياسية».
وربما لذلك السبب فإن الطالب العربي الذي يريد دراسة مرحلة الماجستير والدكتوراه في علم التاريخ في الولايات المتحدة، لا يحصل على قبول للأسباب التالية:
1- لأنَّ علم التاريخ عندهم يرتبط بالمؤامرات والمخططات السياسية الخطيرة.
2- لأنَّ طالب الدراسات العليا لابد أن يأخذ حقبة تاريخية ويحللها ويعدّ عنها رسالته في صورة مؤامرات ودسائس، وإعداد تصور واضح لمنع تكرار الأخطاء نفسها مجدداً، فتخلق التصورات بين الطلاب لدى صانعي السياسة الأميركية تصورات واضحة وخططاً استراتيجية بعيدة حيال الدول الأخرى. وقد كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، «ثعلب السياسة الأميركية»، متخصصاً في التاريخ. لذا كثيراً ما يكون حصول الطالب العربي على القبول في الدراسات العليا في الفيزياء النووية في الولايات المتحدة، أسهل من حصوله على القبول في التاريخ.
في العالم العربي الأمر يختلف، فمادة التاريخ في المدارس والمناهج التربوية العربية مهملة إهمالاً واضحاً وموضوعة في آخر القائمة، وأغلب الذين يدرُسون التاريخ إنما يدرسونه لأنهم فشلوا في الحصول على القبول في التخصصات الأخرى. وحتى بعد تخرج الطالب من هذا التخصص تكون فرص عمله محدودة وهامشية. فالدول العربية لا تطلب، مثل أميركا، من طالب الدراسات العليا الوقوف عند حقبة تاريخية وتحليلها، لاستخلاص الدروس وأخذ العبر.
إن تهميش مادة التاريخ ومناهج دراسته، يساهم في منع نهوض الحضارة العربية وعرقلة تقدمها، وفي طمر الإنجازات التاريخية للعالم العربي، من خلال غرس مفاهيم جديدة في نفوس الناشئة، تمهيداً لمرحلة ينسون فيها هويتهم وتاريخ مجتمعهم.