في الأيام القليلة الماضية، أدان مستشار الأمن القومي الأميركي «جون بولتون» المحكمة الجنائية الدولية إدانة شديدة. ولم يكتف بإعلان أن الحكومة الأميركية ترفض التعاون مع المحكمة، بل هدد قيادة المحكمة والمتعاونين معها. وكان بولتون يرد على إعلان أصدرته المدعية العامة للمحكمة «فاتو بنسودا» في وقت متأخر العام الماضي طالبت فيه قضاة المحكمة أن يفوضوا لها بالتحقيق في أعمال الولايات المتحدة في أفغانستان منذ 15 عاماً، بالإضافة إلى أعمال «طالبان» وقوات الأمن الوطني الأفغانية. وجادل بولتون وآخرون أن مثل هذا التحقيق يهدد أفراد جيشنا وسيادتنا القضائية على حربنا على «القاعدة» و«داعش» والجماعات الإرهابية الأخرى.
لكن الواقع أن هذه فرصة مثالية كي نستخدم المحكمة لنعزز حربنا ضد الإرهابيين، ونعزز أيضاً أمننا القومي العام. ويمكننا فعل هذا مع الحفاظ على سيادتنا القومية وحماية أفراد جيشنا واستخباراتنا. والقانون الدولي لا يحمي فقط غير المقاتلين، بل يحمي قواتنا المسلحة أيضاً. ونحن، الولايات المتحدة، ساعدنا في تعزيز القانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام. وحتى في تسعينيات القرن الماضي، شاركنا في تجريم استعمال أسلحة الليزر المصيبة بالعمى والتعذيب. وأثناء حروب يوغسلافيا شهدنا مدى ما أدى إليه الخوف من الخضوع للقضاء من الارتداع عن ارتكاب جرائم حرب أكثر شناعة وكيف كان صدور صحيفة اتهام ضد الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش عن المحكمة الجنائية الدولية من أجل يوغسلافيا السابقة عام 1999 من الضربات الحاسمة التي أنهت الصراع في كوسوفو. وأنا أعلم هذا لأني كنت جزءاً من هذا المسعى.

وكان من الطبيعي تماماً أن يسعى عدد من الدول لإنشاء ذراع قضائية وتحقيقية دائمة تستطيع عرقلة وتقييد بشكل أكبر أهوال الحروب الأهلية والحروب بين الدول. وظهر هذا في صورة المحكمة الجنائية الدولية. وبعد جدل داخلي محتدم، رفضت إدارة كلينتون تبني النص النهائي لـ «تشريع روما» وهو الإطار التعاقدي للمحكمة عام 1998. لكن في عام 2000، وقعنا على «تشريع روما» نتيجة تحقيق بعض التقدم ولإيماننا بقدرات المحكمة الكامنة في المستقبل. صحيح أن الولايات المتحدة لم تصدق قط على معاهدة المحكمة، لكن المحكمة انضم إليها 123 دولة من بينهم معظم حلفائنا الأساسيين. والمحكمة تمارس عملها منذ عام 2002.

وتعاونت الولايات المتحدة مع المحكمة في عدد من القضايا منها دارفور وليبيا وجمهورية الكونجو وجمهورية أفريقيا الوسطى وأوغندا. ولا شك في أن سلطان المحكمة القضائي قيد الصراعات بصرف النظر عن صعوبات تطبيق إجراءات قانونية نظيفة في أعمال العنف القذرة واستراتيجيات الحروب المروعة. وأعلنت بنسودا أن «فحصها الأولي» يركز إلى حد كبير على «طالبان» وقوات الأمن الوطني الأفغانية، وقد يتضمن القاعدة وجماعات إرهابية أخرى إذا دُشن التحقيق. وقد تكشف التحقيقات عن جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب واسعة النطاق أشرفت عليها هذه الجماعات ضد أبرياء. وتأثير التحقيقات سيتجاوز أفغانستان ويؤثر في المستقبل، وهذا لأن مجرمي الحرب المحتملين الذين يرتبطون عادة بالجماعات الإرهابية والدول التي تدعمهم سيتعين عليهم التفكير طويلاً في العواقب العملية للأعمال المنافية للقانون.

وستحتاج المدعية مساعدتنا في هذا لأن لدينا أدلة مهمة ضد المشتبه بهم. ومن خلال التعاون يمكننا المساعدة في تعزيز سلطة العمل الدولي ضد الإرهابيين وأنصارهم. لكن ماذا عن تحقيق بنسودا مع أفراد أميركيين وفي أعمال الولايات المتحدة كجزء من هذا؟ أولاً: الوقائع المذكورة صغيرة ولا تمثل إلا جانباً ثانوياً من التحقيق المبدئي. والولايات المتحدة حاولت دوماً العمل في إطار القانون الدولي بحسب ما نفسره. ثانياً: «تشريع روما» يسمح للمحققين أن يمتنعوا عن توجيه الاتهامات إذا «كان هناك أسباب جوهرية للاعتقاد بأن التحقيق لن يخدم مصالح العدل». وهذا يعني أنه يتعين على المحكمة ألا تمارس عملها إذا اعتقدت أن الدول المتورطة يمكنها اتخاذ الإجراءات الخاصة بها لتحقيق العدل.

ولذا يجب على الولايات المتحدة أن توافق على تشكيل «لجنة تقصي حقائق» خاصة بها تعمل وفق إجراءات عالية المصداقية بموجب القانون الأميركي، لكن تستخدم مراقبين دوليين وتحمي مصادرنا وإجراءاتنا السرية. ولجنة تقصي الحقائق قد تمثل فرصة للاعتراف بالأخطاء وإعادة الحق إلى الضحايا. وقد توفر أيضاً درساً تتعلم منه الأجيال القادمة من القادة الأميركيين الذين سيكابدون الأسئلة نفسها أو المشابهة لها عن الحياة والموت والمصالح القومية. وقد يندهش البعض إذا قلنا أن تحدي تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في الأوضاع في أفغانستان يقدم لنا ما نحتاجه تحديداً من وسائل لتعزيز أمننا وقيمنا الأميركية وإدراج دول أخرى بفعالية أكبر في العمل من أجل عالم أفضل وأكثر أمناً.
*القائد السابق لقوات «الناتو»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»