قبل قرن من الزمان شهد نجديٌ صغير السنّ سقوط مُلك أسرته ومملكة بلاده وخرج مع والده إلى بلادٍ مجاورةٍ، يشعر بالوحدة والخذلان، وبقي لسنواتٍ في بلادٍ غير بلاده ووطنٍ غير وطنه، ولم يفارق ذهنه يوماً أن يعود للوطن ويسترد ما ضاع ويبني فخاراً جديداً وصفحةً من نورٍ ستبقى طويلاً في التاريخ. كان ذلك النجديّ هو عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الذي خرج منذ بلغ الشباب والفتوة من الكويت -حيث لجأ والده- قاصداً الرياض في ثلة قليلة من الأبطال وشحٍ في الموارد لا يملك من الدنيا شيئاً غير حلمٍ كبيرٍ وطموحٍ ضخمٍ باستعادة حقه وإرث آبائه وأجداده الممتد لقرنين من الزمان حينذاك.
على الرغم من كثافة الصعاب وعناد التاريخ وشبه استحالة تحقيق النجاح عاد مرةً أخرى بعد عامٍ على محاولته الأولى، أشد عزيمةً وأقوى شكيمةً وأعمق إصراراً على ترويض المستحيل وتحقيق الحلم المنشود، وتعاقد مع رجاله من أبناء عمومته وفرسانه على دخول الرياض، وكانت معركةٌ تجلّى فيها صبر الرجال وعزيمة الأبطال وتم قتل "عجلان" حاكم الرياض حينها وأعلن في الرياض أن: "الملك لله ثم لعبد العزيز" وانطوت صفحة مظلمة وشرع التاريخ في كتابة صفحة جديدةٍ من البطولة والنجاح.
شرع عبد العزيز بعد فتح الرياض في ملاحم التوحيد ومعارك الوحدة وحروب الاستقرار، متخذاً العزم شعاراً والحزم دثاراً، فأشهر سيفه وقدّم دهاءه، يقود جنوده بنفسه وبأقرب الناس إليه من أبنائه البررة وإخوانه الأشاوس ورجاله المخلصين، يدبّر أمر السياسة قبل الحرب وبعدها ويغدق الخير على شعبه أينما توجّه ويهزم خصومه ثم يقربهم إليه في فروسيةٍ عربيةٍ نادرةٍ.
واستمرّ في ذلك حتى استوت سفينة الوطن على "جوديّ" الاستقرار، وثبّت الأمن والرخاء في عموم البلاد، فأعلن في 23 سبتمبر 1932 توحيد البلاد وتسميتها المملكة العربية السعودية بناء على نصيحة بعض المواطنين، فتأسست الدولة السعودية الثالثة، الدولة المدنية القوية بمشروعيتها السياسية ضاربة الجذور في التاريخ والمتطلعة للمستقبل والبناء والتطور.
واصل أبناء الملك المؤسس الطريق الطويل وكان لكلٍ منهم دورٌ مشكورٌ وخبرٌ مأثورٌ من الملك سعود إلى الملك فيصل، ثم الملك خالد والملك فهد، فالملك عبد الله وصولاً لمليك الحزم والعزم الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهد الأمير محمد بن سلمان.
روابط مشتركة
جمعت السعودية وإمارة أبوظبي علاقات مشتركة وتعاون قوي ومصالح مشتركة على مدى عقودٍ بنيت على اللغة الواحدة والثقافة المتشابهة ودعمتها التقاليد العريقة والأعراف العربية الأصيلة، واستمرت بعد توحيد السعودية واتحاد الإمارات وترسخت وتعمقت حتى بلغت أوجها غير المسبوق في هذا العهد الزاهر في البلدين. كانت السعودية والإمارات صفاً واحداً أثناء الحرب الباردة مع المحور الغربي ضد المحور الشرقي، مع نموذج الحضارة الإنسانية الراقي في الغرب وليس مع ديكتاتورية الأنظمة الشيوعية في الشرق، ودعم البلدان أفغانستان وشعبها للتخلص من الاحتلال الشيوعي حتى سقوط الشيوعية المدوّي وتفكك الاتحاد السوفييتي، وكان النصر المظفر على المستوى الدولي حليف البلدين وقادتهما ورؤيتهما المشتركة.
أخلص الحلفاء
في عام 1995 أعلن حمد بن خليفة انقلابه على والده الشيخ خليفة وتفرده بحكم قطر وعمل على مدى عشرين عاماً على نشر الفتن والمشكلات في كل دول الخليج العربي والدول العربية، فقابله قادة البلدين بالحكمة والصبر، ومحاولة إقناعه بالرجوع إلى عمقه الاستراتيجي العربي والتخلي عن تحالفاته المعادية مع إيران وتركيا و"الإخوان"، ولكنه أبى إلا العناد وتبنّاه استراتيجية ثابتةً لدولته ونفطها وغازها الذي ينفقه على الخصوم والأعداء، حتى جاءت لحظة الحسم، وفي يونيو 2017 أعلن البلدان ومعهما جمهورية مصر العربية ومملكة البحرين مقاطعة رباعية لدولة قطر.
حينما تولّى الملك سلمان مقاليد الحكم في بلاده، كان من أول قرارات ملك الحزم والعزم إعلان عاصفة الحزم تجاه اليمن، وخطط ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وزير الدفاع للحرب الضرورية وبنى تحالفاً قوياً وفتّش عن الحلفاء فكانت الإمارات العربية المتحدة أولهم وأخلصهم وأوفاهم، ودخل التحالف المظفّر الحرب، لقطع ذيول إيران الممتدة لليمن أصل العرب وموطنهم، وقامت الحرب العادلة لنصرة الشعب اليمني واستعادة الدولة اليمنية.
قال قادة الإمارات لقادة السعودية: "الدم الدم والهدم الهدم"، والتقت العزائم وتحركت الطائرات والدبابات، واختلط الدم السعودي بالإماراتي على صعيد اليمن الطاهر، وعانق الأبطال قمم المجد والعز والظفر، من سهول حضرموت إلى جبال السراة ومن بلاد المهرة إلى تهامة اليمن، رافعين راية التحرير وضرب أذيال إيران، فكان النصر حليفاً والمجد راوياً، ولم يتبق في يد ميليشيا "الحوثي" الإيرانية إلا أقل من عشرين بالمئة من مساحة اليمن، وهم محاصرون على كافة الجبهات من البيضاء إلى الحديدة ومن تعز إلى صعدة، وقد نجحت قيادة التحالف العربي في جعل الوقت أكبر عدوٍ للحوثي وقلبوا اللعبة ضده وضد داعميه الإقليميين في قطر وإيران.
حرب عادلة
النموذج الذي تمّ تقديمه في اليمن، هو نموذج الصديق المنقذ لا المحتلّ الغاشم، فمع أن الحرب فُرضت على السعودية والإمارات هناك، إلا أنها كانت حرباً عادلةً، تراعي كافة قواعد الاشتباك الدولية، ولا تستهدف المدنيين، ولا تستخدم الأسلحة المحظورة دولياً، بل وأكثر من هذا، لقد قدّمت بالتوازي مع "عاصفة الحزم" ما أسمته "إعادة الأمل" فانطلقت الأعمال الإغاثية بلا قياس أو حسابٍ، من "مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية" ومن "الهلال الأحمر الإماراتي"، ومع كل الحرب الإعلامية للتشويش على هذه الأعمال الجليلة فإنه لم يصح إلا الصحيح، وبقي هذا النموذج قائداً ورائداً في تحقيق النصر على العدو الحوثي الإيراني وإغاثة الشعب اليمني الشقيق.
اليوم لدينا أقوى تحالفٍ في التاريخ بين البلدين الشقيقين والقيادتين الواعيتين، ولكن قبل هذا روايات يجب أن تحكى، منها تطابق رؤية البلدين في الحرب على الإرهاب، ومكافحته ورفضه بكافة أشكاله واختلاف جماعاته وتنظيماته، ما جعل البلدين قوةً ضاربةً في التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا وضرباتهم ضمن التحالف شاركت بفعالية في القضاء على التنظيم وتمدده هناك، وتوقيع البلدين على كافة المعاهدات الدولية في محاربة الإرهاب، والمعركة مستمرة والتحالف قائم ويتوسع.
أصبحت السعودية اليوم عاصمةً للعالم، يفد إليها رؤساء دول العالم الكبرى والصغرى، تقود المصالحات التاريخية وتشن الحروب الضرورية، ويخطب ودّها قادة العالم وسياسييه، كما أصبحت محط أنظار المستثمرين، ومشاريعها الكبرى ملء سمع العالم وبصره، وهي بعد وثّابة للمستقبل وطامحةٌ للنجاح، تبني نهضةً شاملةً وتنميةً متميزةً حتى تحوّلت البلاد لورش نجاحٍ ومشاريع إنجازٍ تقفز حواجز المستحيل نحو مستقبلٍ أزهى وأبقى.
والسعودية من قبل ومن بعد هي مهبط الوحي، وقبلة المسلمين، ومأرز الإيمان، يتوجه لها في اليوم الليلة مليار ونصف المليار مسلم، وإليها يفد المسلمون من أصقاع الأرض لتأدية ركن الإسلام الخامس وهو الحج في كل عامٍ، ويتزاحم إليها المعتمرون من كل بلدان الأرض طوال العام، فلا يجدون إلا الرعاية والأمان والخدمات التي يتهافت فيها السعوديون على خدمة الحجاج والمعتمرين، ملكها يختار لنفسه لقب خادم الحرمين الشريفين كأعز وأفخم لقبٍ، وشعبها يفاخر العالم بهذه الخدمة، وهي تزداد وتتطور عاماً بعد عامٍ.
يمرّ العيد الوطني السعودي الثامن والثمانون هذا العام والسعودية في أقوى لحظات تاريخها وأكثر تميزاً، فهي تقود المنطقة سياسياً باتجاه ترسيخ استقرار الدول العربية ومساندة الشعوب العربية على التخلص من التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية والرفض القاطع لمختطفي الدول من الجماعات الأصولية، وهي لا تكتفي بماضٍ مجيدٍ شيّده الآباء والأجداد ولكنها تتجه للمستقبل وبنائه وتقويته، ضمن "رؤية السعودية 2030 "التي أعلنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وهو عرّابها وبانيها، والتي تتسم بالشمول الكبير والاستراتيجيات المبهرة والمشاريع الكبرى في طموحٍ بلا سقفٍ، وسقفه الوحيد كما أعلن ولي العهد بنفسه هو "عنان السماء".
تحالف مظفر
من قبل أيضاً، وحين وقفت السعودية في وجه العالم أجمع، وفي وجه الإدارة الأميركية السابقة، إدارة أوباما التي كانت ميالةً لإيران وجماعة "الإخوان"، وأعلنت بوضوحٍ دعمها الكامل للشعب المصري والجيش المصري في إسقاط حكم جماعة "الإخوان" المعادية لمصر وللعرب، كانت الإمارات على الموعد وأعلنت نفس الموقف وقدمت الدعم ذاته، وتغيّر مسار التاريخ وبقي الحدث شاهداً على قوة هذا التحالف المظفّر.
ومن بعد، أعلنت السعودية والإمارات عدم الاكتفاء بمحاربة الإرهاب بل ضرورة الذهاب إلى عمقه ومنبعه وهو التطرف الديني والأصولية المتشددة، وصنّفت الدولتان ومعهما جمهورية مصر العربية جماعة "الإخوان" جماعةً إرهابيةً، وقاطعتا داعمتها الأكبر دولة قطر، ولم تزل الدولتان تصنفان المؤسسات والشبكات والرموز التابعين لهذه الجماعة إرهابيةً في مناسباتٍ متعددةٍ وكلما دعت الحاجة، ويشمل ذلك العمل المحترف في الدول الغربية والمؤسسات الدولية أو المدنية أو الحقوقية التي اخترقتها هذه الجماعة عبر عقودٍ من وجود عناصرها في تلك الدول، والمعركة طويلة ولكنها مستحقةٌ ومظفرةٌ.
اليوم، تشهد السعودية عرسها الوطني الكبير، وتفرح به، وتحتفي بواقعها ومستقبلها وتعود إلى ماضيها العريق بعيداً عن غلواء المتطرفين الذي كتموا أفراحها لعقودٍ، وقالها ولي العهد صراحةً: "سبعون في المئة من الشعب السعودي تحت سن الـ 30، وبصراحة لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة، سوف ندمرها اليوم، لأننا نريد أن نعيش حياة طبيعية تترجم مبادئ ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة، ونتعايش مع العالم ونساهم في تنمية وطننا والعالم". وأضاف بوضوح: "اتخذنا خطوات واضحة في الفترة الماضية بهذا الشأن، وسوف نقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل، ولا أعتقد أن هذا يشكل تحدٍ، فنحن نمثل القيم السمحة والمعتدلة والصحيحة، والحق معنا في كل ما نواجه".
وكرجلٍ عرفه العالم أجمع بأنه يتبع الأقوال بالأفعال، فها هي رموزهم الأيديولوجية تحاكم بقوة القانون وصرامة العدالة على كل ما اقترفت أيديها في حق الوطن والمواطن، والمؤامرات تكشف والخونة يسقطون، والوطن يحمله أبناؤه فوق رؤوسهم فخراً شامخاً ومجداً تليداً، يغنون له في كل محفلٍ ويباركون تقدمه وطموحه، ويشمّرون عن سواعد الجد للمشاركة في رفعته وعزه.
السعودية في عيدها الوطني الثامن والثمانين تقدم نموذجاً للقوة السياسية الكبرى والقوة الاقتصادية على المستوى الدولي، ونموذجاً لقوة التنمية وتنويع الاقتصاد الوطني وبناء التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وأمام أنظار العالم في رؤية وطنية معلنةٍ وبرامج طموحةٍ داعمةٍ لها مثل "برنامج التحول الوطني" و "برنامج جودة الحياة" و "برنامج حساب المواطن" وغيرها العشرات من البرامج الطموحة والفاعلة، وبمثل هذا تتقدم الأوطان ويبنى الإنسان وتتطور الدول والشعوب.
تطابق الوعي والرؤية
لا يعرف التاريخ الحديث والمعاصر دولةً حليفةً للسعودية أكثر من دولة الإمارات العربية المتحدة، في الحرب والسلام، في الوعي والرؤية، في الهدف والغاية، في التطلع للتنمية وبناء المستقبل، في عزة الأوطان وبناء الإنسان، إنهما بالتعاضد والتكامل تتنافسان على التطوير والتقدم والرقي، وهما تقدمان نموذجاً جديداً لكيف تتحالف الدول وتعزز قوتها وتحقق أهدافها.
نكتفي في هذا السياق من القلادة بما يحيط العنق، لأن الحديث عن السعودية، والسعودية الجديدة كبيرٌ ومتشعبٌ، يبعث على الولاء والحماس والفخر، والحديث عن التحالف المظفّر بين السعودية والإمارات مثله في التشعب والضخامة، ولكن هذا يوم فرحٍ وفخرٍ، يستحضر المنجز ويتطلع للمستقبل.
أخيراً، ففي كل عامٍ تحتفي الإمارات بالسعودية في يومها الوطني بشكل ملفتٍ ومناظر مبهجةٍ وأحداثٍ رسميةٍ وشعبيةٍ، ويشعر السعودي المقيم في الإمارات أنه يحتفل بوطنه في وطنه وليس في بلدٍ آخر، وفي كل عامٍ تحتفي السعودية بالإمارات في عيدها الوطني بنفس الطريقة وذات الأسلوب، وعلى الرغم من كل التحديات القائمة والمعوقات الكثيرة فإن الحاضر يقدّم نموذجاً للنجاح والتقدم، ويشي بالتطور المستقبلي الأجمل، أدام الله على السعودية والإمارات الخير والنماء والنجاح والظفر، وكل عامٍ والسعودية بخيرٍ في عيدها الوطني الثامن والثمانين.
*كاتب سعودي