تعد مأساة مسلمي «الروهينجا» في ميانمار مثالاً صارخاً ليس فقط على العجز الدولي في مواجهة شعب يتعرض منذ عام 2012 إلى التهجير والإبادة والاغتصاب والحرمان من المواطنة وانتهاك حقوق الإنسان وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، وإنما، أيضاً، على السقوط الأخلاقي المدوّي لأحد «الأصنام» التي ظل العالم لسنوات طويلة يقدسها، ويعتبرها تجسيداً لأعلى معايير الحق والنزاهة والقيم الإنسانية المجردة، ولا يجرؤ أحد على انتقادها أو التشكيك فيها، وهو «جائزة نوبل للسلام» التي تم منحها على مدى سنوات طويلة لبعض الشخصيات التي لا تستحقها ولم تقدم شيئاً حقيقياً من أجل السلام، ولشخصيات أخرى ارتكبت من الجرائم - سواء قبل الحصول على الجائزة أو بعدها - ما يجعلها بعيدة كل البعد عن فلسفتها وأهدافها، وفي المقابل تم حجب الجائزة عن شخصيات عملت بإخلاص من أجل السلام في العالم، وقدمت للإنسانية خدمات جليلة ربما لم يقدمها غيرها.
نوبل للسلام.. ولكن!
لقد حصلت زعيمة ميانمار «أونغ سان سو تشي» على جائزة نوبل للسلام في عام 1991 بسبب كفاحها من أجل الديمقراطية والحرية في بلادها وتعرضها للاضطهاد جراء ذلك، وليس لدى أحدٍ أيُّ اعتراض على ذلك، بل بالعكس، قوبل هذا القرار من لجنة نوبل في حينها بالترحيب والثناء، ولكن السؤال المحير هو: كيف تظل «أونغ سان سو تشي» تحتفظ بهذه الجائزة التي ترمز للسلام والمحبة والتسامح ونبذ التعصب والتمييز بين البشر على اختلاف دياناتهم وأعراقهم وأجناسهم وألوانهم، بعدما تعرضت له أقلية «الروهينجا» المسلمة في بلادها من جرائم عنصرية بشعة ضد الإنسانية، بشهادة الأمم المتحدة ذاتها، ناهيك عن الكثير من المنظمات الحقوقية العالمية، أسفرت عن قتل وحرق واغتصاب وتهجير مئات الآلاف، بمشاركة الجيش نفسه وليس المتطرفين البوذيين فقط، وبصمتٍ ومباركة ومحاولة للتبرير من «سو تشي» التي يرتبط اسمها بجائزة عالمية للسلام؟!
ما حدث ويحدث في ميانمار، هو على النقيض تماماً من كل قيم التسامح والتعايش وحقوق الإنسان، وهي القيم التي لا يمكن الحديث عن السلام في أي مكان في العالم من دونها، ولا يمكن أن يكون لجائزة نوبل للسلام أو أي جوائز أخرى مماثلة أي معنى في ظل غيابها. الغريب في الأمر أن أوروبا التي تثرثر دائماً عن حقوق الإنسان وتوحي بأنها تمثل أولوية بالنسبة إليها ولا تتوقف عن إعطاء الدروس للدول المختلفة فيها، وقفت عاجزة أمام ما جرى ويجري في ميانمار ولم تستطع منعه أو التخفيف منه، وحينما تحركت جاء تحركها متأخراً واقتصر على فرض عقوبات على بعض المسؤولين العسكريين، في حين أن المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق «أونغ سان سو تشي» التي ظلت بعيدة عن العقاب، والأمر نفسه ينطبق على مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان التي لم تقترب من زعيمة ميانمار في موافقها من مأساة أقلية «الروهينجا»، فبعد سنوات من القتل والتهجير والاغتصاب والحرق ضد هذه الأقلية، خرجت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان «ميشيل باشليه» في سبتمبر 2018 لتطالب بتشكيل آلية دولية لجمع وحفظ وتحليل الأدلة بشأن الجرائم في ميانمار!
تبرير مثير للسخرية
لقد طالب الكثيرون حول العالم بسحب جائزة نوبل للسلام من زعيمة ميانمار؛ لأنها لم تعد تستحقها وفقدت الأهلية لحملها، وهذا حقيقي ولا يمكن لأحد أن يجادل فيه، لكن لجنة الجائزة رفضت سحبها منها، وقدمت تبريراً غريباً ومثيراً للسخرية، وهو أن لوائح اللجنة لا تسمح بذلك لأنها، أي اللجنة، ليست لها علاقة بسلوك الشخص بعد حصوله على الجائزة، وإن ما يهمها رؤيته وجهده ودوره من أجل السلام الذي قاده للحصول عليها!
هذا التبرير يعني أن جائزة نوبل للسلام يمكن أن ترتبط باسم شخص إرهابي أو قاتل أو مجرم ضد الإنسانية، سواء قبل حصوله عليها أو بعده، وهذا ما حدث بالفعل وما زال يحدث، والأمثلة كثيرة سواء من الماضي أو من الحاضر، حيث نجد أن اليمنية توكل كرمان التي حصلت على الجائزة في عام 2011 ما زالت تحتفظ بها رغم انتمائها إلى جماعة إرهابية هي جماعة «الإخوان المسلمين»، ورغم مواقفها المشجعة على الفوضى والقتل والتخريب في اليمن، بل إنها تستغل شهرتها التي وفرها لها الحصول على الجائزة لكي تخدم مشروعات لقوى إرهابية. كما ظل رئيس وزراء إسرائيل الأسبق شيمون بيريز محتفظاً بجائزة نوبل للسلام التي حصل عليها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين بعد اتفاق أوسلو للسلام عام 1993، رغم مجزرة «قانا» في لبنان في عام 1996 التي جرت بقرار منه وأسفرت عن مقتل العشرات من المدنيين بينهم أطفال، بل إن حصول بيريز ورابين على الجائزة في 1994 كان أمراً مثيراً للسخرية لأن كليهما كان عضواً في منظمات صهيونية إرهابية قبل قيام إسرائيل في عام 1948، مارست أسوأ عمليات القتل والتهجير والترهيب والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين والعرب، وارتكبت جرائم خطرة لا تسقط بالتقادم. والأمر نفسه ينطبق على رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحم بيغن الذي فاز بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1978 نتيجة للسلام بين مصر وإسرائيل، رغم ارتباط اسمه بأخطر العصابات والمنظمات الإرهابية الصهيونية التي ارتكبت جرائم ومذابح شهيرة أبرزها مذبحة دير ياسين عام 1948 التي راح ضحيتها أكثر من 250 شخصاً، وقال عنها هو نفسه إنه لولاها ما قامت دولة إسرائيل، كما ظل بيغن محتفظاً بالجائزة على الرغم من غزوه لبنان عام 1982.
أوباما وغاندي.. الصدمة
إضافة إلى ما سبق، فقد منحت لجنة جائزة نوبل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما جائزة نوبل للسلام في أكتوبر 2009 مبررة ذلك بجهوده «غير العادية لدعم الدبلوماسية العالمية والتعاون بين الأمم، ورؤية أوباما وعمله من أجل عالم خالٍ من الأسلحة النووية»، على الرغم من إنه تسلم السلطة رسمياً في يناير 2009، وهذا يعني أنه حصل على جائزة كبرى بحجم نوبل للسلام ولم يكن قد مضى على تسلمه الحكم سوى شهور قليلة لم يفعل فيها شيئاً عملياً حقيقياً لدعم السلام العالمي، حيث تم الاعتماد على «رؤية» أعلن عنها ولم يكن معروفاً ما إذا كانت ستطبق أو لا.
ولذلك فإن الأمين العام السابق للجنة نوبل للسلام «غير لوندستاد» قال، في عام 2015، إن اللجنة لم تحقق ما كانت تهدف إليه بقرارها منح أوباما جائزة نوبل للسلام، كما طالب البعض بعد سنوات من حصول أوباما على الجائزة بسحبها منه لأنه لم يقم بأي دور مؤثر في تحقيق السلام العالمي. وعلى الجانب الآخر من الصورة ربما قد يُفاجَأ الكثيرون أو يصابون بالصدمة، حينما يعرفون أسماء شخصيات عالمية لم تحصل على جائزة نوبل للسلام، منهم على سبيل المثال الزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي، الذي ألهم وما يزال يلهم العالم كله في مجال التسامح والدعوة إلى السلام ونبذ العنف، لكنه لم يحصل على الجائزة على الرغم من ترشيحه لها مرات عدة، ومنهم كذلك المغفور له، بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، رغم جهده الإنساني الكبير الذي تشهد به كل المنظمات المعنية في العالم وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة، وشمل العالم كله من دون تفرقة بين إنسان وإنسان بسبب الدين أو العرق أو اللون أو المنطقة الجغرافية، ودوره، رحمه الله، في نشر السلام والدعوة إليه إقليمياً وعالمياً، وهذا ما اعترف به المفكر السويدي كلايس نوبل، عميد عائلة نوبل، وابن الأخ الأكبر لألفرِد نوبل، مؤسس جائزة نوبل في محاضرته في جامعة زايد بدولة الإمارات العربية المتحدة في عام 2015، حينما قال إن العالم يجب أن يحذو حذو دولة الإمارات العربية المتحدة، ويتمثل نهج مؤسسها الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، «الذي تناغمت أفكاره وأفكار ألفرِد نوبل في تنوير النفوس بقوة المحبة».
وخلافاً للشيخ زايد، رحمه الله، والمهاتما غاندي، هناك شخصيات كثيرة في العالم، بعضها رحل وبعضها على قيد الحياة، لا يتسع المجال لذكرها، تستحق بجدارة جائزة نوبل للسلام لكنها لم تحصل عليها؛ إما لأسباب سياسية، أو أيدويلوجية، أو ربما لأسباب عنصرية، ولعل نظرة سريعة على قائمة الفائزين بجائزة نوبل للسلام أو جوائز نوبل بشكل عام منذ بدايتها، تكشف عن أن الغالبية العظمى من الفائزين بهذه الجائزة من الغرب!
دعوة لتصحيح المسار
ما سبق لا ينفي أن جائزة نوبل للسلام قد ذهبت مرات كثيرة إلى مَن يستحقها بحق، ولكن منح الجائزة إلى من لا يستحقها وارتباط أسماء مجرمين وإرهابيين بها ينزع عنها قيمتها الأخلاقية والمعنوية الكبيرة التي كانت تتمتع بها، ولذلك فإن لجنة جائزة نوبل للسلام مطالَبة بالتحرك السريع لتصحيح مسارها، وتغيير القواعد التي تحكم عملها بحيث يمكنها سحب الجائزة ممن يخرجون على فلسفتها بعد حصولهم عليها بصرف النظر عما قاموا به قبل استحقاقهم لها، ومنحها لمن يستحقونها بحق، بعيداً عن أي اعتبارات تنحرف بها عن أهدافها النبيلة التي وضعها مؤسس جوائز نوبل «ألفرِد نوبل» قبل أكثر من مئة عام؛ وذلك حفاظاً على قيمة الجائزة والمعاني السامية التي تكمن فيها، وهي المعاني التي تتناقض بشكل كامل مع استمرار زعيمة ميانمار «أونغ سان سو تشي» في حمل جائزة نوبل للسلام، في حين أن بلادها أصبحت عنواناً لكل الجرائم المضادة للسلام.