أظهرت التطورات الأخيرة مدى هشاشة الوضع السياسي في ليبيا وبالذات من منظور جهود التسوية السياسية للصراع الذي يجري على أرضها منذ الإطاحة بنظام القذافي ومستقبل هذه الجهود، والمعروف أن هذا الصراع قد تفجر في سياق موجة ما عُرف بـ"الربيع العربي وتعقد كغيره من الصراعات المماثلة بالتدخلات الخارجية على المستويين الإقليمي والعالمي وإن بدا أفضل حالاً، حيث إن اتفاقاً للتسوية السياسية قد تم التوصل إليه وهو اتفاق الصخيرات على عكس الحال في الصراعين السوري واليمني، خاصة وقد ترتب على هذا الاتفاق تشكيل حكومة الوفاق الوطني ودخولها العاصمة طرابلس في مارس2016 وحصولها على اعتراف دولي، غير أنه سرعان ما اتضح أن اتفاق الصخيرات لم يكن أو لم يعد موضع إجماع، وأن حكومة الوفاق وإن تمتعت باعتراف دولي يعتد به فإن قاعدة قوتها كانت هشة بدليل اعتماد بقائها على ميليشيات متناحرة أعلنت ولاءها لها وإن لم تخضع فعلياً لسيطرتها أو يتم توحيدها في جيش نظامي يشير إلى بوادر عودة الدولة وهيبتها، وهكذا لم يتجاوز الأمر أن يكون هذا الولاء نوعاً من الارتزاق المبني على الابتزاز، ولا يخفي من ناحية أخرى وجود حكومة الشرق التي تستند إلى برلمان منتخب معترف به وجيش نظامي استطاع أن يسيطر بصفة عامة على شرق ليبيا، بل امتد نفوذه إلى مناطق أخرى تجاوزت الشرق ناهيك بأنصار له في غرب ليبيا وفي طرابلس ذاتها.
وقد جرت محاولات عربية عديدة لتسوية الصراع في ليبيا وبالذات من قِبَل دول جوارها العربي مصر والجزائر وتونس، كما اهتمت الدول الأوروبية وبالذات إيطاليا وفرنسا بالصراع وتدخلت فيه بسبب مصالحها النفطية الحيوية، وبدا واضحاً أن هناك تنافساً فرنسياً-إيطالياً وسباقاً لتحقيق التسوية كي يكون للفائز فيه النصيب الأوفى من المغانم، كما اهتمت الأمم المتحدة بجهود تسوية الصراع من خلال مبعوثين لها وصولاً إلى المبعوث الحالي غسان سلامة الذي تفاءل به كثيرون بحكم أنه أكاديمي عربي يفهم الصراع وأبعاده المعقدة أكثر من سابقيه، غير أنه بدا في الآونة الأخيرة وكأن هذا التنافس يدفع أطرافه إلى تبني خطوات متعجلة بلا أساس حقيقي تستند إليه ومن هذا القبيل نتائج اجتماع باريس في مايو الماضي الذي تم الاتفاق فيه على إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في هذا العام.
والحق أن الانتخابات هي الآلية المثلى لتسوية أي صراع داخلي أو حله، غير أنه من الضروري أن تتوفر شروط النجاح في إجرائها وتطبيق نتائجها، وهو ما لا يمكن لأحد أن يدعيه فألف باء إجراء الانتخابات هو توفر البيئة الأمنية التي تسمح بإجرائها على نحو آمن ونزيه دون ضغط من أي قوة، وها نحن قد رأينا الاشتباكات الأخيرة بين ميليشيات طرابلس وغيرها، وهي أعنف اشتباكات منذ دخل السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني طرابلس في مارس 2016. وهكذا كأننا عدنا إلى نقطة الصفر خاصة وقد انهارت محاولات لوقف إطلاق النار، وإذا كان هناك من الأسباب ما يدفع هذه الميليشيات للاقتتال بعيداً عن الانتخابات وحساسياتها فما بالنا بالوضع إذا أُجريت الانتخابات في ظل هذه الأوضاع ناهيك بتعقيدات الموقف القبلي والتدخلات الخارجية، وإذا كانت الانتخابات قد أُجريت في لبنان والعراق وتم التسليم بنتائجها ومع ذلك فإن جهود تشكيل الحكومة في البلدين مازالت متعثرة بل تحدث بشأنها اختلافات مضحكة ما كان لأحد أن يتخيل حدوثها، فكيف يكون الحال في وضع لا نضمن فيه إجراء الانتخابات بسلام أصلاً؟
والغريب أن متحدثاً فرنسياً كرر التأكيد بعد تفجر الاشتباكات الأخيرة على ضرورة إجراء الانتخابات بحد أقصى نهاية هذا العام في إصرار واضح على التمسك بمنطق وضع العربة أمام الحصان، والحقيقة أن تفجر تلك من الاشتباكات كان من الضروري أن يدفع إلى تكثيف الجهود من أجل التخلص من هذه الميليشيات أصلاً، والسعي إلى خلق جيش وطني يدين بالولاء للدولة الليبية، وقد بُذلت جهود حقيقية في هذا الصدد من الواضح أنها لم تصل إلى غايتها حتى الآن، فضلاً عن ضرورة التوصل إلى توافق وطني وقبلي حقيقي وإلا فإن البديل سوف يكون للأسف هو استمرار الوضع الحالي المعرّض للانفجار في أي لحظة والمحفز لاستمرار التدخل الخارجي.