إن تحقيق العدالة الاجتماعية وتجذير الثقة في السلطة العمومية والمصالحة وتوطيد دعائم الأمن.. من أهم مقومات البقاء. فالثقة مثلا هي الوقود المحرك في هذا كله. والثقة في أي بلد بين الدولة والمجتمع، والتي شهدت في العقود القليلة الأخيرة انخفاضاً حاداً في العديد من البلدان، تلك الثقة التي يصعب إنجاح أي إصلاح سياسي إلا بالاستناد إليها، لا يمكن أن تتعزز إلا إذا شعر كل مواطن في ذلك البلد بأن دولته قد بادرت إلى الاستقواء به في مكافحة مشاريع الهيمنة والوصاية والتدخل الأجنبي، وكي تثبِّت من خلاله ركائز عقد اجتماعي جديد وتقوِّي تماسك اللحمة الحامية للبلاد، من مؤسسات مبنية على قواعد جديدة. فتجذير بناء الثقة هو أحد القواعد التي تبنى عليها الأوطان، لأن غرس الشك المستمر في أذهان الناس وعوامهم يورث الريبة والسخط.
وأحدث مثال يمكن سرده في هذا المقام، والذي هو موضوع الساعة في كل وسائل الإعلام الفرنسية والأوروبية، ما كشف عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ أيام حول تفاصيل خطة بتكلفة ثمانية مليارات يورو على مدى أربع سنوات، تهدف إلى محاربة الفقر الذي يعاني منه نحو 14? من الفرنسيين. وتركز خطة ماكرون على الوقاية من انعدام الأمن خصوصاً لدى الأصغر سناً والمساعدة في إعادة الإدماج في الوظائف. ?وبذلك ?يسعى ?إلى ?كسر ?صورة ?الرئيس ?الذي ?يعطي ?أولوية، ?بحسب ?المعارضة، ?للأكثر ?ثراءً (?وقد ?أعفى ?هؤلاء ?من ?الضريبة ?على ?الثروة)?. ?وساهمت ?هذه ?الصورة ?في ?تراجع ?شعبيته ?بشكل ?كبير ?في ?استطلاعات ?الرأي. ووضع الرئيس الفرنسي استراتيجية على المدى الطويل تهدف إلى مكافحة هذه الظاهرة التي تدمر حياة من يعانون منها. ?وقال ?ماكرون: «?لقد ?اعتدنا ?في ?كثير ?من ?الأحيان ?على (فضيحة ?الفقر)»، ?داعياً «?كل ?قوى ?الأمة» ?إلى ?التحرك ?للقضاء ?على ?الفقر «?خلال ?جيل ?واحد» ?و«?إعادة ?بناء ?دولة ?الرفاهية» ومنع «انتقال ?الفقر ?عبر ?الوراثة»، ?إذ «الحقيقة ?أن ?الطفل ?الذي ?ولد ?فقيراً ?بحاجة ?إلى ?180 ?عاماً ?لكي ?يأمل ?في ?أن ?يصل ?أحفاده ?إلى ?الطبقات ?المتوسطة».?
وفي فرنسا عام ?2016 كان هناك نحو ?8,8 ?مليون ?شخص ?فقير، ?أي?14? ?? ?من ?الشعب الفرنسي، ?حسب ?المعهد ?الوطني ?للإحصاء ?والدراسات ?الاقتصادية. ?ويرتفع ?هذا ?المعدل ?إلى ?19,8? ?للأشخاص ?الذين ?لم ?تتجاوز ?أعمارهم ?18عاماً.
ويُعتبر فقيرا كل من يتقاضى أقل من 1026 يورو شهرياً، أي أقل من 60? من متوسط دخل الفرد. ?وقد ?يكون ?هذا ?التحديد ?داخلياً، ?لأنه ?لو ?جاب ?المعهد ?الفرنسي ?الوطني ?للإحصاءات ?والدراسات ?الاقتصادية ?باقي ?دول ?العالم، ?لوجد ?أن ?قارة ?أفريقيا ?مثلا تحتوي على ?أعلى ?معدلات ?فقر ?في ?العالم، ?وبخاصة ?مناطق ?جنوب ?الصحراء ?الكبرى? حيث تتجاوز نسبة ?الفقر ?35.2? ?من ?إجمالي عدد ?السكان. ?وتشير ?نتائج ?منظمة «?غالوب» ?العالمية ?للإحصاءات، ?إلى ?أن ?54? ?من ?تعداد ?السكان ?في ?27 ?دولة ?في ?أفريقيا ?جنوب ?الصحراء ?-من ?أصل ?42 ?دولة- ?يعيشون ?في ?فقر ?مدقع ?على ?أقل ?من ?1.25 ?دولار ?يومياً. ?كما ?أظهرت ?إحصائيات ?المنظمة ?أن ?16? ?من ?سكان ?الشرق ?الأوسط ?وشمال ?أفريقيا ?يعيشون ?على ?1.25 ?دولار ?أو ?أقل يومياً، ?بينما ?يعيش ?28? ?من ?سكان ?المنطقة ?ذاتها ?على ?دولارين ?أو ?أقل ?يومياً. ?ومن ?جهة ?أخرى، ?لا ?يتجاوز ?عدد ?السكان ?الذين ?يعيشون ?على ?1.25 ?دولار ?يومياً ?نسبة ?1? ?في ?البلدان والمناطق ?المتقدمة ?اقتصادياً، ?مثل ?أستراليا ?ونيوزيلندا ?والولايات ?المتحدة ?وكندا ?وأوروبا ?باستثناء ?منطقة ?البلقان.
لكن المهم من هذه المقابلة هو أن كل دولة في عالم اليوم، سواء أكانت غنية أم فقيرة، يتحتم عليها أن تعي بأن التنمية الدائمة ومكافحة الفوارق الاجتماعية والوقاية من انعدام الأمن المجتمعي.. من أصول الحكم، وأن النهج العقلاني يتأسس على تلبية احتياجات جميع الأجيال، وبالأخص الجديدة منها.. انطلاقاً من العدل والتوافق والإيثار والمصلحة العليا، وهي القواعد الرشيدة للحكم، وهذا ما يهم جميع الدول، النامية منها والمتقدمة.