يشير الإعلام الإيراني والقريب من إيران، تصريحاً أو تلميحاً، إلى مواجهة تقترب مع الولايات المتحدة في العراق. وما فُهم حتى الآن أن الخطط تُنسّق لتسبق أو تتزامن مع الحزمة المقبلة من العقوبات التي ستشمل النفط بيعاً وشراءً، ما تعتبره طهران «إعلان حرب» عليها، وقد استخدمت في الأسابيع الماضية كل الإنذارات الممكنة في هذه المرحلة، من التلويح بإغلاق مضيق هرمز، إلى إطلاق الحوثيين صواريخ على ناقلة سعودية في البحر الأحمر، إلى مواصلة التهديد بالردّ على منع مرور نفطها بمنع مرور أي شحنات لدول أخرى في المنطقة. أما استهداف الأميركيين في العراق فغدا تطوّراً متوقّعاً منذ انتهاء الحرب على تنظيم «داعش» واقتلاعه من مناطق سيطرته، إذ كانت هذه الحرب قد ولّدت ميليشيات «الحشد الشعبي» كجيش موازٍ للجيش العراقي الذي أعاد الأميركيون تأهيله مع قوات مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية وجعلت منها حامياً قوياً للدولة العراقية، وبالتالي عنصراً مهدّداً لـ«الحشد» وهو الذراع العسكرية للهيمنة الإيرانية.
في خضم الأزمة السياسية الناشبة لبلورة التحالف الأكبر المؤهّل لتشكيل الحكومة الجديدة، معطوفة على اضطرابات البصرة، سقطت فجأة ثلاث قذائف مدفعية في المنطقة الخضراء داخل بغداد حيث توجد مقار الحكومة ومجلس النواب ومعظم السفارات. كان الحادث الأول من نوعه منذ فترة طويلة جداً، وكان يمكن اعتباره «عادياً»، إلا أن رد الفعل الأميركي عليه لم يكن عادياً، إذ حمّلت واشنطن إيران المسؤولية وحذّرتها بأنها «سترد بشكل سريع وحاسم» على أي هجمات يشنها حلفاؤها وتؤدي إلى إصابة أميركيين أو إلحاق أضرار بمنشآت أميركية. قبل ذلك كان تقرير لـ«رويترز» أفاد بأن إيران نقلت صواريخ باليستية إلى «جماعات شيعية مسلحة متحالفة معها»، وأنها تبني قدرات لصنع المزيد في العراق. نَفَت بغداد واقعة الصواريخ، أما إسرائيل فبَنَت عليها لتتوعّد بضرب مواقع لأسلحة وصواريخ إيرانية في العراق، لكن واشنطن أعلنت أنها ستمنع إسرائيل من القيام بأي ضربة.
غير أن دوافع المواجهة المحتملة لا تقتصر على مسألة العقوبات أو على تعزيز وضعية «الحشد» والدفاع عن النفوذ الإيراني في العراق، بل باتت مرتبطة بالتهديد الذي تستشعره طهران لتوسّعها الإقليمي وخطوط الاتصال والإمداد التي أنشأتها. فالخطر على وجودها في سوريا لا يزال قائماً رغم تقلّبات الموقف الروسي، أما وجودها في العراق فبات موضع تساؤلٍ وخطراً على العراق نفسه. إذ يواصل الأميركيون نشر القواعد والتمدّد غرباً في العراق بموازاة تعزيز انتشارهم في شمال شرقي سوريا، بهدف منع «ممر طهران -بيروت» الذي يقول الإعلام الإيراني إنه بات مفتوحاً وعاملاً. المفارقة أن الجانبين يراهنان على روسيا، فواشنطن تربط توافقاتها مع موسكو في شأن سوريا بإخراج إيران منها في حدٍّ أقصى أو بمنع الإيرانيين من تكريس ذلك «الممر» عبر الحدود العراقية السورية كحدٍّ أدنى، أما طهران فتعوّل على استمرار الخلافات وتصاعدها بين روسيا والولايات المتحدة ولعلها تجد هامشاً للمناورة في المناخ المتوتّر حالياً بين الدولتَين الكبريَين.
ليس أدلّ على التوترات المتصاعدة بين الأميركيين والإيرانيين من المواجهة السياسية التي يخوضونها للتأثير في الاستحقاقات الوشيكة، وبالأخصّ تشكيل التحالف الحكومي. وقد أتاحت أحداث البصرة لإيران أن تتصيّد حيدر العبادي بدفع أحزابها إلى تحميله المسؤولية وتبرير إقصائه كمرشح للبقاء في رئاسة الحكومة. قبل ذلك كانت آثار الاختراق الإيراني ظهرت أيضاً في التلاعب بالتكتل الكردي، وكذلك بالتكتل السنّي الذي حاول توحيد موقفه إلا أنه توزّع بين التحالفَين الكبيرَين، فتحكّم الموالون لإيران باختيار رئيس البرلمان. في المقابل انحصر الرهان الأميركي بالعبادي ولم يُرفَق ببلورة أي «بديل» محتمل، بل ارتبط بـ«مصداقية» التزام تيارَي الصدر والحكمة تأييده. تبدّد هذا الالتزام بعودة التيارَين إلى التحالف مع «الحشد» وإعادة توحيد «البيت الشيعي»، لذلك أظهر الإيرانيون أنهم سجّلوا نقطة ضد الأميركيين، بل فرضوا تغييراً جوهرياً على مسار تشكيل الحكومة. إذ كان يتمّ في السابق، كما في حالَي المالكي ثم العبادي، بتوافق ضمني وغير مباشر بينهم وبين الأميركيين، أما هذه المرّة -وما دامت «المواجهة» مفتوحة- فإن الإيرانيين سيسعون إلى الانفراد باللعبة. لكن إذا أمكن للإيرانيين أن يقيموا حكومة كاملة الولاء لهم وغير متعاونة مع الولايات المتحدة، هل تستطيع حكومة كهذه أن تحكم وتوطّد الأمن وتكافح الفساد وتعزّز مناخ مصالحة وطنية وتجتذب الاستثمارات لتعيد الإعمار وتنهض بالاقتصاد والخدمات؟ برهنت السوابق أن كل «انتصار» لإيران يعادل هزيمة للعراق والعراقيين.