نبدأ من الآخر النسبي، لأن ترامب في هذه الفترة من حياته الرئاسية يتخبط، فهو لم يترك دولة على حالها بحيث لا نعرف مآل هذه التصرفات في الغالب وإلى أن تتجه. حقا سياسة أميركا الحالية تجاه العالم أجمع حركت أشجان الرئيس السابق أوباما ليبوح بمكنون نفسه ليوجه انتقادات حادة للرئيس دونالد ترامب ولـ«الجمهوريين» وحث «الديمقراطيين» على التصويت في انتخابات الكونجرس التي تجرى في نوفمبر لإعادة «النزاهة والاحترام وسيادة القانون» للحكومة. وقال «أوباما» في خطاب ألقاه في جامعة إلينوي إن الأميركيين يعيشون الآن في «أوقات خطرة» واتهم «الجمهوريين» بتقويض التحالفات الدولية بتقاربهم مع روسيا، وبأنهم تسببوا في ارتفاع حاد في عجز الموازنة الاتحادية، فالأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى، لأنها متتالية ومتوالية الأعداد وكذلك الإعداد.
أميركا تمر اليوم في مرحلة استثنائية وفق كل المقاييس المعروفة في العلاقات الدولية بشكل عام والسياسات الخارجية الأميركية على مر العقود التي عاصرناها على أقل تقدير، وهي بالنسبة لنا تمثل قرابة النصف قرن. وهي مدة زمنية معقولة لمعرفة أميركا عن قرب وفي مجال العلاقات الخارجية لأنها واضحة المعالم والأثر المباشر على معايير الصداقة والخصومة حتى الوصول إلى مرحلة العداوة والبدء بشن الحروب الباردة مع الروس على سبيل الحصر والساخنة على الإرهاب بلا حدود.
المستغرب في وضع أميركا الحاضر دون أن نخوض في المستقبل وإن كان في باطنه ما يتمخض به الحاضر، تقريباً معظم القرارات التي اتخذها ترامب، أو شاركت الإدارة الأميركية، في صناعتها معه كانت أقرب إلى الصدمة أو الاصطدام بالآخر بلا تفرقة بين الغرب والشرق. هذا الذي لم يحدث بهذه الصورة الفاقعة منذ تلك العقود السالفة، فلأميركا اليوم قصة مختلفة في عهد ترامب غير المسبوق. مع ملاحظة أن هذه التغيرات تقع تحت حكم ترامب في أقل من سنتين، ترى ماذا يمكن أن يحدث للعالم، لو استمر ترامب لفترتين متتاليتين وهو أمر غير مستبعد حدوثه وفق المعادلة الأميركية للديمقراطية، وهي اللعبة التي تجيدها الأحزاب المتنافسة في المجتمع.
دعنا نوضح ذلك ببعض الأمثلة السريعة، وكان أبرزها قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس الغربية، وهو قرار لم تجرؤ أي إدارة أميركية التصريح به، فضلاً عن إصدار قرار صادم للشرق الأوسط الذي يعتبر القدس والمساس به القضية المحورية والمركزية الأولى للعرب والمسلمين، ومازالت في بؤرة الصراع وإن فتر حماس الشارع العربي في التفاعل اللائق بمثل ذاك القرار غير المسبوق في مجمل تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي خلال قرن من عمره. والسبب الرئيس يعود بالطبع إلى حمولات «الربيع العربي» الذي خانه الطريق إلى التعمير، فوقع في شر التدمير لما تبقى في الأمة من التطلع إلى التنمية والتنوير.
حتى إن بعض الدول في أميركا اللاتينية التي تحمست في البداية لنقل سفارتها إلى القدس قد أعلنت تراجعها عن ذلك منذ فترة وجيزة، ووصفت صحيفة «ISRAEL HAYOM» قرار باراجواي بإعادة سفارتها من القدس المحتلة إلى تل أبيب بـ«ضربة قاسية للغاية ومباشرة» لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وذكرت الصحيفة العبرية المقربة من حزب «الليكود» الحاكم في إسرائيل، أنه بينما يعمل نتنياهو للحصول على اعترافات دول أخرى بالقدس عاصمة لإسرائيل، يحدث العكس. وأضافت أن كولومبيا اعترفت بدولة فلسطين، وباراجواي سحبت اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهذا يجب أن يشعل الضوء الأحمر في إسرائيل. نعتقد بأن كافة القرارات المعروفة على هذا المنوال يمكن أن تتعرض لانتكاسات أخرى، إذا لم يتدارك الساسة العقلاء - في أميركا التي لا تخلوا منهم - هذا الانحدار فيما تذهب إليه الإدارة الحالية، فهلاَّ نعبر عن ذلك الوضع، ب «أليس فيكم رجل رشيد»من قرابة ثلاثمائة مليون أميركي؟! وأخيرا وليس آخراً، الإدارة الأميركية أبلغت الفلسطينيين رسمياً بأنها ستغلق مقر منظمة التحرير في واشنطن. خبر من سطرين ولكنه يحمل في ثناياه مأساة قرن.