إن وجود روسيا وتمركزها عسكرياً أو اقتصادياً، وعبر سلاح الطاقة وأسواقها، وخطوط إمداداتها في المناطق الحيوية والساخنة في العالم بطريقة أو بأخرى، كل هذا هل يجعلها مركزاً من مراكز الهيمنة العالمية التي تؤثر على جزء كبير من الكرة الأرضية؟ وهل تتمتع روسيا الاتحادية بنفوذ دولي خاص يجعلها شريكاً دائماً في سير الأحداث العالمية وتنظيم الشؤون العالمية؟ وبما أنها تعتمد على علاقات مختارة متبادلة مع الكثير من الدول، هل نستطيع أن نطلق عليها قوة عظمى؟ وذلك وفق درجات متفاوتة من الصعود والهبوط في مؤشرات القوة، وهل تملك يداً من حديد تستطيع أن توجه من خلالها ضربة عسكرية متعددة الأغراض والأماكن، أو تشن حملات أو حروباً باردة دبلوماسية أو تجارية وتصنيعية أو مالية أو معرفية وثقافية، أو تقنية متقدمة، وتؤثر على أزمات العالم الاقتصادية، وتساهم في تشكيل قيم ومبادئ اجتماعية، ووجهة نظر ورأي عام عابر للقارات، وهو ما ينطبق فقط على الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، ولذلك فهي لا تزال القوة العظمى الأكثر نجاعة وفاعلية وتأثيراً نوعياً في العالم.
وفي المقابل، تملك روسيا حضوراً مؤثراً في المناطق التي تملك أكبر مخزون استراتيجي للنفط والغاز، وتوثر على المحاصيل العالمية المرتبطة بالغذاء، وفي المستقبل، سيصبح القمح أهم من النفط والسلاح، حيث بلغت صادرات روسيا من الأسلحة في العام الماضي نحو 15 مليار دولار، في حين بلغت قيمة صادراتها من الحبوب والمنتجات الزراعية 20 مليار دولار، ولكن من جهة أخرى هناك أجندة التغيّر المناخي، وأزمة المصادر المائية والمخزون الجوفي التي بدأت تلوح في الأفق لدى روسيا، هذا بالإضافة إلى جفاف بعض أهم البحيرات الروسية، ونقص منسوب المياه في بعض المناطق، ودور ذلك في التمدد الروسي الحتمي من أجل تحقيق الأمن المائي، والضغوط التي سوف تواجهها في هذا الجانب.
ومن جهة أخرى، تعتمد ميزانية روسيا على إيرادات الطاقة بنحو 70% من إجمالي إيرادات الميزانية، وهي عرضة لمخاطر انخفاض أسعار النفط العالمية، وكيف سينجح الرئيس بوتن وحكومته في ضمان توازن واستقرار التمويل الحكومي. والقوى العظمى يجب أن يكون لها المقدرة على استخدام قوتها كعامل فصل وتحقيق التوازن المنشود سلمياً بقدر استخدامها لها في الحروب والصراعات على نطاق عالمي، فتعرف متى يجب أن تتصرف كقوة عظمى ومتى يفضّل عدم تدخلها، والوقوف لاعباً متفرجاً قد يحرك الأمور عن بعد وبأساليب لها أيديولوجية دولية، وعدم الركون فقط التأثير على الدول الأخرى من خلال قوتها العسكرية والمنظمات الأممية، وألا تقع ضحية للضغوط الجيوسياسية، بل هي من يفرضها ويتحكم بالنمط الذي تسير به.
فروسيا وقواها الناعمة وفيالقها الدبلوماسية، والتأثير على البلدان الأخرى والتحالفات والمنظمات الدولية له وجود يذكر، ولكن هل يوجد قبول واسع في كل دول العالم لرموز ونجوم مجتمعها على الصعد والنشاطات الإنسانية كافة؟ مما يسهم في تلاقي وتبعية فكرية طوعية، والتي بدورها تشكل مفاهيم جديدة، وتفرض أجندات طويلة الأمد، وتمرر رأياً عاماً ورؤية معينة! وروسيا لا تملك كل تلك الأدوات الناعمة، وعليه هل يعدّ مصطلح إمبراطورية معاصرة أقرب للصواب من مصطلح قوة عظمى؟ لبروز نظام متعدد الأقطاب وبصور اعتمادية تبادلية يكون التحالف ضمنها هو القطب، وله مركز هيمنة يمثله على الساحة العالمية، ويكون له الحضور الأكبر.
فلدى الروس من دون شك إمكانيات النمو التقنّي، والتصنيعي والمعرفي، وازدهار البحث العلمي، ولكن روسيا لا تستطيع أن تجذب أفضل العقول لأراضيها، ولا تعدّ أبرز الجامعات والكليات ومختبرات البحوث في العالم ضمن الترسانة الروسية للهيمنة. كما لا يوجد بجانب روسيا حلفاء استراتيجيين كافيين لتحدّي الهيمنة الأميركية وتمدد التنين الصيني، وهل ستقبل الصين بدورها تشكيل تحالف رسمي وشمولي مع روسيا ليتحول النظام العالمي إلى ثنائيّ القطب؟ ويبقى سؤال الوحدة الوطنية مصدر قلق دائماً للقيادة الروسية، والأقليات، ونبرات الاستقلالية وتقرير المصير، في ظل المبادئ الدولية التي ترشد الدول القومية.
وبدروها تشكل مشاكل الفقر والجوع والبطالة والإدمان والجريمة المنظمة تحدياً قائماً لدى الروس، خاصة في ظل ارتفاع مستويات المعيشة وارتباطه بالغلاء الفاحش وتفشي الظلم الاجتماعي.
وإذا كانت روسيا تريد أن ترى التغيير كل يوم، فيجب عليها الإصلاح في كل يوم، وهو أمر مرهق لميزانيتها في ظل حجم الديون السيادية وفوائدها المرتفعة. كما أن روسيا تراهن على تكنولوجيا الاتصالات والذكاء الاصطناعي لتحقيق قفزة خارقة للعادة لرسم خارطة مستقبل العالم.